مركز الألسنة بين المواهب
لقد حدد معلمنا بولس الرسول مركز موهبة التكلم بألسنة بين المواهب كما يتضح مما يلي إذ صرح بأنها:
1ـ الأخيرة:
ففي ترتيبه للمواهب وضعها في آخرها إذ قال: "فإنه لواحد يُعطى بالروح كلام حكمة. ولآخر كلام علم ... ولآخر إيمان. ولآخر مواهب شفاء ... ولآخر أنواع ألسنة ولآخر ترجمة ألسنة" (1كو8:12-10).
2ـ الأقل:
فقد ذكر الرسول أنها أقل من التنبؤ في قوله:
"لأن من يتنبأ أعظم ممن يتكلم بألسنة ..." (1كو5:14).
ويعلق علي ذلك القديس يوحنا ذهبي الفم بقوله:
[صنع هنا مقارنة بين المواهب. فحط بموهبة اللغات... لأنهم كانوا يترفعون بها جداً، إذ كانوا يعتقدون أنها موهبة عظيمة جداً]
(مخطوط بدير البرموس وجه 221N.P.F. vol XII.P.208)
من هذا يتضح مركز التكلم بألسنة أنها آخر المواهب وأقلها. ومع أنها أقل المواهب وقد ذكرت في آخرها، إلاَأن البعض يتمسك بها، لأنه يمكن أن يستغلها وليس هذا هو الوضع الروحى.
مواهب الروح وثمار الروح
يوضح معلمنا بولس الرسول أن المحبة وهي من ثمر الروح أفضل من الألسنة وهي من مواهب الروح بقوله: "إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة فقد صرت نحاساً يطن أو صنجاً يرن" (1كو1:13) وقد قال في الآية التي قبل هذه الآية: "جدوا للمواهب الحسنى وأيضاً أريكم طريقاً أفضل" (1كو31:12) ففي هذه الآية وضح بصراحة أن طريق الفضائل أفضل من المواهب.
وقد علق علي ذلك القديس يوحنا ذهبي الفم قائلاً:
"أريكم طريقاً أفضل" وذلك ليرفع من المحبة ويعظمها. وإنه لم يقل: أريكم موهبة واحدة أوعدة مواهب، بل قال: أريكم طريقاً مؤدياً إلى هذه كلها ... وهو للجميع، وليس كالمواهب التي تًعطى للبعض فقط وليس للجميع ولذلك فالرسول يدعو الكل إلى هذا الطريق، لأنه يقول أريكم طريقاً أفضل أي المحبة نحو الآخرين.
وإذ بدأ يتحدث عن معناها ومدحها قارنها بموهبة التكلم بألسنة، فوضع أن هذه الموهبة بدون المحبة لا شئ]
(مخطوط بدير البراموس وجه 199)
من هذا يتضح أن ثمار الروح أفضل من مواهب الروح بالنسبة لحياته الشخصية ونموه الروحى، كما أن ثمار الروح تلزم للخلاص الشخصى لكل إنسان أما المواهب فهى نافعة للخدمة ...
غزارة الموهبة في العصر الرسولي
كانت موهبة الألسنة تصاحب حلول الروحالقدس أحياناً على جماعة المؤمنين في المراحل الأولى للكنيسة، كما حدث يوم الخمسين (لليهود)، وفي بيت كرنيليوس (للرومان)، وفي أفسس (لليونانيين) وكان لها أهداف هامة منها:
1ـ أن تتكلم الكنيسة بكل اللغات مخاطبة ضمائر وأسماع الشعوب في كل الأرض حتى تنتشر الكرازة في كل أرجاء المسكونة.
2ـ أن تصلي الكنيسة بهذه اللغات عينها متكلمة مع الله باسم جميع الشعوب جاذبة إياهم نحو الله، ومعلنة قبول الله لهم جميعاً.
3ـ كما أن الكنيسة في العصر الرسولي كانت في حاجة ماسة إلى هذه الموهبة مقترنة بموهبة الترجمة، مع موهبة النبوة أيضاً، حيث أن الكتاب المقدس العهد الجديد لم يكن قد دُونَ بعد، فكان الروح القدس عن طريق هذه المواهب يعزى المؤمنين في الكنائس ويعطيهم بنياناً. وفي هذا قال هوكنج (هو أحد الدارسين المتبحرين في هذا الموضوع عن التكلم بألسنة).
[كانت الخدمة (في الكنيسة الأولى) شفوية لأن العهد الجديد لم يكن قد كتب، فكان هناك احتياج إلى مواهب النطق الإلهي: النبوة والألسنة وترجمتها] (Hoking, Speaking in Tongues. P.54)
4ـ لتكون آية وعلامة لغير المؤمنين لتثبت لهم أن الله حاضر في هذا المكان وأنه مع هؤلاء الناس.
ولهذه السباب وغيرها أعطى الله هذه الموهبة بغزارة للكنيسة الأولى في عصر الرسل.
تناقص غزارة الموهبة حتى اختفائها
لقد تناقصت غزارة الموهبة (موهبة التكلم بألسنة) حتى اختفت كما هو ثابت تاريخياً، ونورد هنا بعض الإرشادات التي تدل علي ذلك:
1ـ ترتليانوس:
لقد تحدي ترتليان (القرن الثاني) الهرطوقي ماركيون أن يأتي بمواهب الروح إن كان صادقاً. ويظهر من كلام العلامة ترتليان أن موهبة التكلم بألسنة لم تكن موجودة في زمانه.
(Encyclopaedia of Religion and Ethks vol. III P.372)
2ـ ميلتيادس:
كتب ميلتياد، طبقاً لما ذكره يوسابيوس (القرن الرابع) ضد بدعة المونتانية أن يكفوا عن الكلام غير المفهوم، الغامض، حيث أن موهبة التكلم بألسنة قد أدمجت في موهبة النبوة. (Ibid).
3ـ القديس يوحنا ذهبي الفم:
كتب القديس يوحنا ذهبي الفم (القرن الخامس) بخصوص موهبة التكلم بألسنة في شرح الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس اصحاح (1:12-10) فقال: {إن هذا الجزء من الكتاب المقدس غير واضح تماماً، وذلك بسبب جهلنا، وبسبب نقص هذه الأمور التي كانت تحدث في القديم ولكنها الآن لا تحدث. فلأي سبب لا تحدث الآن} (مخطوط بدير البراموس 24/2 وجه 178 مع مراجعتها على النص الإنجليزي بمجموعة كتابات نقيقة).
من هذا يتضح أن الموهبة قد تناقص غزارتها حتى اختفت من الكنيسة - شهادات من آباء- القرن الثاني الرابع والخامس ولعل ذلك لانتهاء القصد من وجودها، ومنعاً للتشويش الذي قد يصاحبها كالتطبيق غير السليم، ولا يعني هذا قصور من الروح القدس في منح المواهب بل إنها تُعطي بحسب تدبير الله لبنيان الكنيسة.
لمحة تاريخية
يحدثنا التاريخ عن ظهور جماعات على ممر الأجيال تنطق بكلمات غير مفهومة بلا معنى أثناء الصلاة، ويعللون ذلك بأنه تكلم بألسنة الملائكة، والواقع أن هذه الظاهرة لها خلفيات في الخرافات اليهودية والهلينية، وسوف نتتبع هذه الظاهرة عبر التاريخ على قدر الإمكان.
1ـ الخلفية اليهودية: (Kittle, Theological dictionary of the New Testament. )
من المعتقدات الخرافية التي كانت سائدة عند اليهود بخصوص ذلك ما يلي:
أ- أن رؤساء الملائكة الأربعة كان لكل واحد منهم لغته يمجد بها الله.
ب- أن أيوب قبيل موته أعطى بناته الثلاثة ثلاث مناطق (أحزمة). فإذا لبست بنته الأولى منطقتها تكلمت بألسنة الملائكة، وإذا لبست الثانية منطقتها تكلمت بألسنة الشياطين، وإذا لبست الثالثة منطقتها تكلمت بألسنة الشاروبيم.
2ـ الخلفية الهلينية: (Ibid)
كان لليونانيين أفكار قريبة الشبه من ذلك.
أـ فقد ساد في الديانات اليونانية ظاهرة النطق بألفاظ ليس لها معنى ابتداء من عرافة تراكيان ديونيسيوس (Tracian Diohy Sus.) حتى تنبؤات وعرافة دلفيك فريجيا (Delphic Phrggia).
ب ـ كتب فوجيل الشاعر الروماني (70-21 ق.م) في قصيدة الأنيادا (Aeneid) عن نبية يونانية كانت تتكلم بألسنة غير مفهومة، وكانت تنتابها انغعالات هستيرية.
(Hoking, Speaking in Tongues)
ج ـ كان اليونانيين يعتقدون أن لكل طبقة من طبقات السماء لغة خاصة بالأرواح التي تسكنها.
(Kittle, Theological dictionary. Vol. IP. 719:727.)
د ـ كان اليونانيين يستخدمون ألفاظاً سحرية غير مفهومة وليس لها معنى لاستحضار أرواح الآلهة. (Ibid)
هـ ـ ربط إيريناوس بين العرافة الهلينية وبين الظاهرة الغريبة التي ظهرت على المرأة التي إدعت النبوة وتبعها ماركيسون الغنوسي.
(Ibid)
و ـ ربط كلسوس بين هذه العرافة الهلينية وبين ما كان يحدث في إجتماعات المسيحيين المسبيين بحسب تصوره من حيث المنطوقات غير المفهومة، وإن كان أوريجين قد فند أقواله وأثبت كذب ادعائه، لكن الموضوع نفسه الذي كان سائداً في دياناتها وعرافتها.
(N.P.F. 1est sed. Vol IV P. 611:615)
هذا عن خلفيات هذه الظاهرة الغريبة أما عن ظهورها عبر التاريخ المسيحي فنورد ما ذكره التاريخ فيما يلي:
1ـ الماركيونية: ظهرت هذه الظاهرة الغريبة في مجال البدعة الماركيونية الغنوسية وقاومها إيريناوس وترتليانوس.
(Encyclopaedia of religion and Ethic vol. III P.372)
2ـ المونتانية: (في القرن الثاني الميلادي) حيث ادعى مونتانوس أنه نبي وكان هو وجماعته يتكلمون بألسنة أخرى عير مفهومة.
(Hoking, Speaking in Tongues P.114-117)
3ـ في ألمانيا: (1517م – 1648م) ظهرت الألسنة ثانية مه بعض الطوائف البروتستانتية في ألمانيا. (Ibid)
4ـ في فرنسا: (1650م) قام من ادعو النبوة في فرنسان ومارسوا التكلم بألسنة.(Ibid)
5ـ غرب اسكتلندا: (في النصف الأول من القرن التاسع عشر) ظهرت جماعة في غرب اسكتلندا يمارسون التكلم بألسنة غير مفهومة، وانضم إليها إدوارد إرفنج الذي نقل الظاهرة إلى لندن وأصبح من أقطاب الحركة وقد تأثر به روبرت باكستر من الكنيسة الكاثوليكية ثم عدل عن طريقهم وكتب كتاباً ينقض هذه الممارسة. (Ibid)
6ـ الخمسينيون: كان بدء ظهورهم عام 1900م، وفي 31مايو 1912م انعقد المؤتمر الخمسيني الدولي الخامس وكان أهم قراراته هو اعتبار التكلم بالألسنة العلامة الوحيدة لما يسمونه معمودية الروح وقد ردينا على هذا الموضوع في هذا الكتاب.
7ـ في مصر: دخل الخمسينيون ومعهم هذه الظاهرة إلى مصر عام 1940م. (Hoking, Speaking in Tougues P.114-117)
8ـ الكارزماتيك: أعتنق بعض الكاثوليك هذه المبادئ ويمارسون هذه الظاهرة، وقد عقدوا مؤتمرهم الكاريزماتي الدولي بروما في مايو 1975م (Ibid).
هذه مجرد لمحة تاريخية عابرة عن هذه الظاهرة.
الخاتمة
لعلنا بعد هذا العرض السريع لموضوع التكلم بألسنة قد وقفنا على جلية الأمر، وعرفنا أن التكلم بألسنة هو:
1ـ موهبة من مواهب الروح القدس ولكنها ليست لكل أحد، وليست علامة لازمة ومميزة للأمتلاء بالروح القدس.
2ـ وهو النطق بلغات البشر التي كانت موجودة في العالم، وليست تكلماً بلغة الملائكة.
3ـ وأنها تقابل بلبلة الألسنة في بابل.
4ـ وأنها كانت تظهر في الصلاة وفي الكرازة علي السواء بلغات البشر.
5ـ وأنها تحتاج إلى موهبة الترجمة لتصبح ذات فائدة لبنيان الآخرين في الكنيسة، وإلا صمت صاحبها لئلا يكون سبباً في التشويش.
6ـ وأنه لابد من وجود معايير وضوابط للحكم على صحتها.
7ـ وأنها الأقل في المواهب والأخيرة في ترتيبها.
8ـ وأن ثمار الروح أفضل من كل المواهب ومنها (أي من التكلم بألسنة).
9ـ كما رأينا سر غزارتها وتدفقها في العصر الرسولي ثم سر تناقصها حتى اختفائها.
10ـ وأخيراً عرضنا في لمحة سريعة لظهورات ظاهرة الكلام غير المفهوم في الصلاة عبر التاريخ.[/size][b]
اذكرونا في صلواتكم[b][b]