[size=18][/size][size=24][/size]
(2)
المزيد من أقوال المسيح
«ولما جاء يسوع إلى نواحي قيصرية فيلبس سأل تلاميذه قائلاً: من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان؟» (متى16: 13).
****
سنواصل الحديث في هذا الفصل عما قاله المسيح بفمه الكريم عن نفسه في البشائر المتماثلة (متى ومرقس ولوقا)، وسنتجاوز ما ورد من أدلة على لاهوت المسيح في سفر الأعمال وفي الرسائل، نظرًا لأننا لا نريد أن ننشغل الآن بأقوال الرسل الكثيرة عن سيدهم في هذه الأسفار، رغم أن شهادتهم لها تقديرها، لأن الرسل هم من عايشوا المسيح لمدة تزيد على ثلاث سنوات، ويعرفون عنه أكثر من يعرف غيرهم عنه؛ بل إننا سنقصر حديثنا فقط عن أقوال المسيح نفسه التي تبرهن أنه الله. ثم نذكر بعض الآيات من سفر الرؤيا، نظرا لأن هذا السفر هو ”إعلان يسوع المسيح“. وكلام المسيح فيه يرد دائما بصيغة المتكلم. وسنذكر بعضًا من هذه الآيات بحسب ترتيب ورودها في الكتاب المقدس.
1- قال المسيح: إنه هو الرب الديان
فلقد قال في المسيح موعظته من فوق الجبل، وهي أول مواعظه المسجلة له في الأناجيل:
«كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: ”يا رب يا رب: أ ليس باسمك تنبأنا؟ وباسمك أخرجنا شياطين؟ وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟“ حينئذ أصرح لهم إني ما أعرفكم» (متى7: 22).
تحتوي موعظة المسيح من فوق الجبل على العديد من البراهين على لاهوت المسيح. فمثلا في بداية الموعظة قدم المسيح مجموعة من التطويبات، ختمها بهذه التطويبة: «طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين. افرحوا وتهللوا لأن أجركم عظيم في السماوات. فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم» (متى5: 11، 12). والشيء اللافت هنا أن المسيح يقارن بين تلاميذه الذين يتألمون لأجله، والأنبياء في العهد القديم. لقد اضطهدوا الأنبياء في العهد القديم بسبب أمانتهم لله، والآن يقول المسيح لتلاميذه إنهم، في اتباعهم له، سيتعرضون للاضطهاد بسبب أمانتهم له، ويعدهم بأنه سيكون لهم ذات المكافأة التي للأنبياء. الدلالة واضحة هنا، فإن كان تلاميذ المسيح يُشَبَّهون بأنبياء الله، فهذا معناه أنه هو يُشَبِّه نفسه بالله. أو بكلمات أخرى، يعتبر نفسه أنه هو الله.
ثم في ختام العظة يقول المسيح: «من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها أشبهه برجل عاقل بنى بيته على الصخر» (متى7: 24). يوضِّح المسيح هنا أن أساس الأمن والسلام في الحياة الحاضرة وفي الأبدية أيضًا هو الاستماع إلى كلامه. فمن يكون هذا؟
ثم في الأقوال السابقة للآية التي نتحدث فيها قال المسيح: «ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات». وهذا معناه أن هناك حسابًا لمن يقول له: ”يا رب“ دون أن يعيها، فكم بالحري لمن يرفض من الأساس أن يقولها!
وهذه الآية وردت في إنجيل لوقا هكذا: «ولماذا تدعونني يا رب يا رب، وأنتم لا تفعلون ما أقوله لكم» (لوقا 6: 46). ومن هذا نفهم أن المسيح لا يعتبر نفسه مجرد سيد يُقدَّر، بل إنه رب يُطاع.
وإن كانت الأقوال التي قالها المسيح في (ع21) تنطبق على الوقت الحاضر، فإن كلماته في (ع 22) تنطبق على يوم قادم. إن ”ذلك اليوم“ الذي يتحدث عنه المسيح في الآية السابقة، هو يوم الدينونة. إنهم سيقولون له، باعتبارهم المدانون، وهو سيصرح لهم، باعتباره الديان. وكلامه هو، وليس كلامهم هم، هو الفيصل في ذلك اليوم العصيب!
ثم نلاحظ أن هؤلاء الكثيرين من البشر سيقولون للمسيح الديان في ذلك اليوم: «يا رب يا رب». فالمسيح إذًا بحسب كلامه هنا، هو ”الرب“ وهو ”الديان“.
وفي هذا الاتجاه قال المسيح في عظة جبل الزيتون، إنه متى جاء في مجده وجميع الملائكة القديسون معه، سيجمع أمامه جميع الشعوب، ويقول للذين عن يمينه: «تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم .. ثم يقول للذين عن اليسار اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته. فيمضي هؤلاء إلى عذاب أبدي والأبرار إلى حياة أبدية» (متى 25: 31- 46). هذه الآيات تؤكد لنا أيضا أن المسيح هو الديان. ومن هذه الآيات نفهم أن مصائر جميع الشعوب سيحدده المسيح، وذلك عندما يأتي كالديان في مجده، ومعه لا جمهور كبير من الملائكة، بل جميع الملائكة. ويومها سيجتمع أمامه لا جنس واحد من البشر، ولا مجموعة محدودة، بل جميع الشعوب، وسيقوم هو باعتباره الديان بمحاسبتهم.
ترى من هو الديان الذي سيدين جميع البشر؟ قال إبراهيم في العهد القديم وهو يكلم الرب والمولى: «أ ديان كل الأرض لا يصنع عدلاً؟» (تكوين 18: 22و25). ويقول موسى النبي في العهد القديم: «الرب يدين شعبه» (تثنية32: 36)، وفي العهد الجديد يقول كاتب العبرانيين: «أتيتم.. إلى الله ديان الجميع» (عبرانيين 12: 22و23).
وبحسب أقدم نبوة في الكتاب المقدس، وهي تلك التي نطق بها أخنوخ السابع من آدم، فإن الذي سيدين الجميع هو الرب، فلقد قال أخنوخ: «هوذا قد جاء الرب في ربوات قديسييه ليصنع دينونة على الجميع، ويعاقب جميع فجارهم، على جميع أعمال فجورهم التي فجروا بها، وعلى جميع الكلمات الصعبة التي تكلم بها عليه خطاة فجار» (يهوذا14).
ومن هذا نفهم أن الرب الديان كان في ذات يوم محتقرًا ومخذولاً من الناس، ولذلك فقد تكلموا عليه الكلمات الصعبة. إنه هو الرب يسوع المسيح الذي رُفض لما كان هنا على الأرض، وما زال مرفوضًا من عدد كبير من البشر، لكنه مع ذلك سيأتي عن قريب باعتباره الرب الديَّان، وسيدين جميع البشر!
2- قال المسيح: إنه المُعين، ومريح كل المتعبين
ففي متى 11: 28 يقول المسيح: «تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم»
فإذا كان المسيح، في المستقبل - كما ذكرنا لتونا – هو الديان، فإنه في الحاضر هو المستعان!
والمسيح قبل أن يذكر هذه الآية العظيمة، فإنه ذكر في الآيات السابقة أمجادًا ثلاثية عن نفسه تؤكد لاهوته. وهذه الأمجاد الثلاثية هي:
أن ”الآب قد دفع كل شيء إلى يديه“.
أن ”لا أحد البتة – سوى الآب - يقدر أن يعرفه“،
أنه وحده يقدر أن ”يعلن الآب للبشر“.
وبدراسة هذه الأمجاد الثلاثية يتضح لنا عظمة شخصه المعبود، فليس سوى اللاهوت هو الذي يقدر أن يمسك بيديه كل شيء. ثم لماذا لا يقدر أحد أن يعرف شخصه الكريم سوى الآب؟ السبب في ذلك هو اتحاد اللاهوت والناسوت في شخص المسيح، وبالتالي فإنه فوق مدارك البشر. وأخيرًا ليس سواه من يقدر أن يعلن الآب، فالله ساكن في نور لا يدنى منه، وأما المسيح فإنه واحد مع الآب، ساكنًا في حضنه. «الله لم يره أحد قط، الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر» (يوحنا1: 18). وكون لا أحد يعرف الآب إلا الابن، فهذا معناه أن الابن ليس مجرد أحد. وحقًا إنه لا يقدر أن يعلن الله إلا الله.
بعد ذلك تحدث المسيح عن نفسه باعتباره مسدد احتياجات البشر الملحة، فأعلن أنه المريح، الذي بوسعه لا أن يريح شخصًا أو مجموعة من الأشخاص، بل يريح جميع التعابى، فيقول:
«تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم» (ع28).
من ذا يستطيع أن يدعو جميع التعابى الذين في العالم كله ليأتوا إليه، ويعدهم إنه سيعطيهم الراحة، إلا الله؟
إننا عندما نسمعه يقول «تعالوا إليّ»، ويعد من يأتي إليه بالراحة، كأننا نستمع إلى رجع الصدى من إعلان الله العجيب في العهد القديم وهو يقول: «التفتوا إليَّ واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض، لأني أنا الله وليس آخر» (إشعياء45: 22)؟
3- قال المسيح إنه رب السبت:
فلقد قال لليهود:
«إن ابن الإنسان هو رب السبت أيضًا» (متى12: .
والمسيح في الأصحاح نفسه الذي يذكر فيه أنه رب السبت، يؤكد أنه أعظم من يونان النبي (ع 41)، وأعظم من سليمان الملك (ع 42)، بل إنه قال أيضًا: إنه أعظم من الهيكل (ع 6). من هو هذا الذي ليس فقط أعظم من نبي أو من ملك، بل أعظم من هيكل الله نفسه، بنظامه وعبادته، بذبائحه وكهنوته؟ وإن لم يكن هو الله فمن يكون؟
لكن المسيح لم يذكر فقط إنه أعظم من الهيكل، بل قال إنه ”رب السبت أيضًا“. وهذا القول يتضمن الإعلان عن لاهوته. فلو عرفنا ماذا قال الرب في العهد القديم عن يوم السبت، لأمكننا أن نفهم بصورة أفضل معنى قول المسيح إنه ”رب السبت“.
لقد قال الله لموسى في خروج31: 13و17 «وَأَنْتَ تُكَلِّمُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَائِلاً: سُبُوتِي تَحْفَظُونَهَا لأَنَّهُ عَلاَمَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فِي أَجْيَالِكُمْ .. هُوَ بَيْنِي وَبَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلاَمَةٌ إِلَى الأَبَد». فأن يقول المسيح إنه ”رب السبت“ أيضًا، فهذا معناه أنه هو الرب ”يهوه“ الذي تكلم قديمًا إلى موسى، والذي أمر الشعب قديمًا بحفظ السبوت. فواضح أنه لا يجرؤ نبي أن يعتبر نفسه ”رب السبت“ بعد أن قال الرب عن السبوت إنها سبوته (ارجع إلى خروج31: 13؛ لاويين19: 3و 30؛ 26: 2؛ حزقيال 20: 12و 20؛ 44: 24).
لقد أوضح المسيح أنه في عمله هو أعظم من الهيكل، إذ يقدم علاجًا كاملاً للخطية، لكنه في مجد شخصه هو أعظم من السبت، بل هو رب السبت أيضًا.
4- قال المسيح إنه موجود في كل مكان.
فلقد قال المسيح لتلاميذه:
«لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم» (متى 18: 20).
كيف يمكن للمسيح أن يوجد في وسط كل اجتماع يوجد فيه اثنان أو ثلاثة مجتمعون إلى اسمه؟ أ ليس هذا دليلاً على أنه الرب الذي يملأ الكل؟ وفي ما بعد أوضح الرسول بولس أن المسيح «يملأ الكل في الكل» (أفسس1: 23؛ 4: 10).
وهناك عبارة نطق بها المسيح توضح كيف أنه يملأ الكل، فلقد قال لنيقوديموس: «وليس أحد صعد إلى السماء، إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء» (يوحنا3: 13). لقد كان المسيح يتكلم مع نيقوديموس في أورشليم، لكنه يعلن أن السماء لا تخلو منه. فهو موجود على الأرض وموجود أيضًا في السماء. وهذه واحدة من الخصائص الإلهية، فالله وحده يملأ السماء والأرض، كقول الرب لإرميا: «أ ما أملأ أنا السماوات والأرض يقول الرب؟» (إرميا23: 24).
ونلاحظ أن المسيح الذي كان يتكلم مع نيقوديموس، كان بناسوته في أورشليم، وبلاهوته هو يملأ السماء والأرض. واتحاد الطبيعتين - اللاهوتية والناسوتية - في شخص المسيح، هو فوق المدارك البشرية.
5- قال المسيح إنه رب داود.
فلقد سأل الفريسيين:
«ماذا تظنون في المسيح؟ ابن من هو؟ فقالوا ابن داود. فقال لهم يسوع: فكيف يدعوه داود بالروح ربًا قائلا: قال الرب لربي حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك؟ فإن كان هو ابنه فكيف يكون ربه؟» (متى22: 42-45).
لقد قُدِمت في هذا الفصل (متى 22) أسئلة كثيرة: سؤال عن الجزية التي تُعطى لقيصر، وسؤال عن الزواج في العالم الآتي، وسؤال عن الناموس ووصيته العظمى، ولقد أجاب المسيح عنها كلها إجابات رائعة، ولكنه هنا يوجه السامعين إلى السؤال الأكثر أهمية. «ماذا تظنون في المسيح؟ ابن من هو؟»
والمسيح - كما يعلن الوحي - هو ابن داود، ولكنه ليس مجرد ابن لداود، وإلا لاستحال أن يدعوه داود ربًا. إنه ابن داود بالجسد، ولكنه في الوقت نفسه هو رب داود بلاهوته. ونحن نعرف أن الفريسيين واليهود لم يستطيعوا الإجابة عن سؤال المسيح الذي تركه معهم ليفكروا فيه. وهم إلى الآن، وبعد نحو ألفي عام لم يصلوا إلى الإجابة عنه.
ومن الجميل أن يقول المسيح إن داود دعاه بالروح ربًا، فليس أحد يقدر أن يقول ”يسوع رب“ إلا بالروح القدس (1كورنثوس12: 3). ولهذا فقد دعته أليصابات، وهو ما زال جنينا في بطن أمه: ”ربي“. قالت هذا وهي ممتلئة من الروح القدس (لوقا1: 43). وقال توما له بعد قيامته من الأموات: ”ربي وإلهي“ (يوحنا20: 28)، وقالها الرسول بولس عنه بعد صعوده إلى السماء (فيلبي 3: ، ويخبرنا الوحي أنه سيأتي الوقت الذي فيه سيقول كل لسان أن يسوع رب (فيلبي 2: 11).
وللأسف يعلق البشير متى قائلا: «من ذلك الوقت لم يتجاسر الفريسيون أن يسألوه شيئًا» (ع46). إنهم لم يستطيعوا الرد على منطقه الواضح وحجته القاطعة، لكنهم بدلاً من الإيمان به والانحناء بالسجود له، باعتباره ربهم أيضًا، كما هو رب داود، فإنهم فضلوا أن يمضوا في عماهم وظلام فكرهم باقي عمرهم وإلى أبد الآبدين!