المزمور الحادى عشر
الإيمان أعظم من الهروب
تسبحة الواثق
يظهر داود النبى هنا وقد أشار عليه اصدقاؤه الذين خارت قلوبهم أن يهرب إلى أحد الجبال ليحتمى فيها من وجه مطارده شاول ( 1 صم 23 : 7 – 18 ) . لكنه رفض مشورتهم ، مؤمنا أن الله الملك البار لن يتخلى عنه ، الله خالق الجبال هو ملجأه . ويرى بعض الدارسين أن هذا المزمور هو أحد المزامير الناطقة بأسم الشعب التى تكشف عن العون الإلهى فى مقابل أعداء همجيين برابرة .
ولم يرفض داود مشورة أصدقائه ليس لأن هروبه يعد بمثابة عار بالنسبة لقائد مثله ، وإنما لأن هذه المشورة حملت نوعا من عدم الثقة بالله ، الأمر الذى لا يليق برجل الله ، الذى اعتاد أن يترنم فى داخل قلبه ، قائلا : " على الرب توكلت " [ 1 ] .
مشورة زائفة
" على الرب توكلت ،
فكيف تقولون لنفسى انتقلى على الجبال مثل العصفور ؟! " [ 1 ]
يذكر داود مشورة أصدقائه [ 1 – 3 ] ، الذين أشاروا عليه أن يترك بلده ، ويلجأ إلى أحد الجبال .
الجبن دائما خطير ، إنه من الأعمال الراجعة إلى عدم الإيمان . كل مشورة بترك موقع العمل هى تصرف شرير أحمق . ما قاله أصدقاؤه قد أحبطه وجرح مشاعره كمؤمن يضع ثقته فى الله .
لسنا ننكر أن داود النبى هرب أكثر من مرة من وجه شاول مضطهده وأيضا من وجه ابنه المتمرد أبشالوم ، إذ يوجد هروب شرير وهروب مقدس :
1 – الهروب الشرير ، هو ذاك الذى يقوم على الخوف الداخلى وفقدان الأتكال على الله والثقة فى عنايته وحمايته . هذا ما رفضه داود النبى !
2 – الهروب المقدس ، هو ذاك الذى فيه نهرب من وجه الشر ، لا عن عدم إيمان أو ثقة وإنما لعدم تبديد الوقت فى مقاومة الشر . فقد هرب ربنا يسوع المسيح إلى مصر من وجه هيرودس ( مت 2 : 13 ) . وهرب يوسف الصديق من إمرأة فوطيفار ! وفى سفر الرؤيا هربت المرأة من وجه التنين إلى البرية ( رؤ 12 : 6 ) .
" الرب فى هيكل قدسه ،
الرب فى السماء كرسيه ،
عيناه إلى المساكين تنظران ،
أجفانه تفحص بنى البشر " [ 3 ، 4 ]
يحاول البعض خداع البسطاء بسحبهم إلى الظلمة ، بعيدا عن ضوء القمر ، لكن الإيمان يرفعهم من الأرض إلى الكنيسة السماوية الروحية ، ليروا بهاء العرش الإلهى . هناك يعاينون الرأس ، القدوس ، مصدر برنا . يسكن الرب فى هيكل قدسه ، ومع هذا فعرشه فى السماء ، بمعنى أن الذين يمارسون العبادة الروحية يتمتعون بالمجد السماوى ملجأ لهم .
" الرب عادل ويحب العدل " [ 7 ]
كما بدأ المزمور هكذا ينتهى بكلمة " الرب " الذى سمته أنه " بار " ، و " عادل " – يجيب على كل مخاوف المؤمن المضطهد .. العدل فى وجهه !
+ + +
المزمور الثانى عشر
كلام الأشرار وكلام الأبرار وكلام الله
يكشف المرتل هنا عن فاعلية كلمات بنى البشر الفارغة [ 1 – 4 ] ، وعلى النقيض من ذلك الأثر الصالح لكلمات الله النقية [ 5 – 8 ] ، وعن كلمات أو صرخات الأبرار البائسين [ 5 ] . ويعتبر الكلام الشرير أكثر الشرور تدميرا لنفس الإنسان وللشركة الأسرية وللكنيسة .
يقدم لنا المرتل ثلاثة أنواع من الكلام :
1 – كلام الأشرار : كذب ورياء وكبرياء ... ينطقون بفم أبيهم ، إبليس ، الكذاب وأبو كل كذب ، المخادع والمتعجرف .
2 – كلام الأبرار : تنهدات المساكين بسبب ما يعانونه من ضيق ومتاعب فى هذه الحياة . الرب أبونا يسمع كلمات القلب وتنهداته الخفية .
3 – كلام الله : كلام نقى ، مصدر الخلاص .
يرى البعض أن هذا المزمور هو مرثاة جماعية ، نطق بها المرتل باسم الجماعة الخائفة الله ، فهى تصرخ تطلب الخلاص والعون من الأشرار الغاشين الذين حملوا صورة الرياء والكذب من جانب ، وصورة العنف والظلم من جانب آخر ... يعلن المرتل كيف طال انتظار شعب الله مترجين عمل الله الخلاصى لحفظهم من المنافقين ، لقد وجدوا الإجابة شافية فى كلمته الإلهية التى تقدم وعوده الإلهية !
" خلصنى يارب فإن البار قد فنى ،
والحقوق قد قلت من بنى البشر " [ 1 ]
تطلع داود النبى فى مرارة نفسه ليجد كأن جيله قد خانه ، صار كمن يتعامل مع بنى بليعال ، ليس بينهم بار يثق فيه .
لعل داود النبى كان يتكلم باسم السيد المسيح الذى جاء ليخلص العالم ، فقد فسدت الطبيعة البشرية وضاع الحق من حياة الإنسان ، لذلك يصرخ بإسمنا طالبا الخلاص بتجديد طبيعتنا واتحادنا مع الحق !
لا طريق لعودة الحياة البارة ورجوع الحق إلى العالم إلا بخلاص السيد المسيح ، لهذا يبدأ المرتل بصرخة قصيرة وقوية : " خلصنى يارب " .
" الآن أقوم يقول الرب ،
أصنع الخلاص علانية ،
كلام الرب كلام نقى ،
فضة محمية مجربة فى الأرض ،
قد صفيت سبعة أضعاف " [ 5 ، 6 ] .
تقود كلمات البشر المتغطرسة إلى الإلحاد ، إذ يقولون :
" شفاهنا هى منا ، فمن هو ربنا ؟! " أما ربنا فكلماته نقية ، مثل الفضة المصفاة بالنار سبعة مرات ، كلماته فى حقيقتها هى وعود مقدمة لنا ، تضمن لنا أماننا فيه .
+ " صفيت سبعة أضعاف " ، وذلك :
1 – بمخافة الرب .
2 – بالصلاح .
3 – بالمعرفة .
4 – بالقدرة .
5 – بالمشورة .
6 – بالفهم .
7 – وبالحكمة ( إش 11 : 2 ) .
إذ توجد سبع درجات للتطويب ، صعد عليها الرب كما جاء فى متى ، فى نفس العظة التى نطق بها على الجبل ( مت 5 : 3 – 9 ) .
" وأنت يارب تنجينا وتحفظنا ،
من هذا الجيل وإلى الدهر " [ 7 ] .
إنه أمان وسط الضيق .
يبقى الأشرار مقاومون لأولاد الله فى كل جيل وفى كل موقع فى العالم حتى انقضاء الدهر ، وتبقى كلمة الله مخلصة لنا وحافظة إلى التمام .
+ كلمتك يارب واهبة الخلاص !
هى حصنى وخلاصى ، هى بهجتى وكل حياتى !
+ + +
المزمور الثالث عشر
إلى متى يارب ......؟
يبدو أن داود قد واجه تجارب لا تنتهى فى فترة ما من حياته ، وقد جاء هذا المزمور بمثابة تضرع يسكبه أمام الله حتى يعينه ضد أعدائه .
من تأملات قداسة البابا شنودة الثالث :
إنه أحد مزامير صلاة باكر . وهو مزمور أنين وشكوى وعتاب من إنسان فى ضيقة ، وقد طال عليه الوقت فى ضيقته .
ولذلك فإن عبارة ( إلى متى ؟ ) تكررت أربع مرات فى صلاة هذا المزمور :
قال : إلى متى يارب تنسانى ؟ إلى الإنقضاء . حتى متى تحجب وجهك عنى ؟ إلى متى أردد هذه الأوجاع فى قلبى ، وهذه الأحزان فى نفسى النهار كله ؟ إلى متى يرتفع عدوى على ؟
هذا التكرار لم يكن تذمرا ، إنما لجاجة فى الصلاة .
هو لون من الإلحاح على الرب . فمهما طالت به المدة فى ضيقته ، لا ييأس ، وإنما يرفع قلبه إلى الله متضرعا وقائلا : إلى متى ؟ رغبة منه فى أن يتدخل الله لإنقاذه ...
عبارة ( إلى متى ) تظهر لنا أن أوقات الألم تبدو طويلة ..
إن ساعة واحدة فى ألم شديد من مرض قاس ، تبدو أطول من ساعات أو ايام فى المتعة والبهجة . دائما لحظات الحزن والوجع والألم طويلة ، وأيام الفرح تبدو قصيرة .
إن يعقوب أبا الآباء خدم من أجل راحيل 14 سنة " وكانت فى عينيه كأيام قليلة بسبب محبته لها " ( تك 29 : 20 ) ..
داود هنا يعاتب الله : لماذا تقف ساكتا فى ضيقتى ؟ " أسرع وأعنى " ( مز 70 ) .
إن طالت عليك أوقات الألم ، فكر فى سببها . ربما يكون داخلك !
ربما طالت بسبب عدم صبرك ، أو عدم إحتمالك ! قد يشعر الإنسان بطول فترة الضيقة ، إذا لم يستطع القلب أن يصرفها من الداخل .. إذا كان فى القلب شىء من الضجر أو التذمر أو عدم الصبر ، أو عدم الإيمان بأن الرب سيخلصه وينجيه . وهكذا يفقد الرجاء أيضا ، فيتعب
إن حلت بك ضيقة ، لا تركز أفكارك فى الضيقة ومتاعبها ، وإنما فى الله الذى سوف ينجيك منها ...
انشغل عن الضيقة بالتفكير فى شىء آخر . فكر فى إحسانات الله ، وفى وعوده ، وفى أعمال محبته . وفى كل ضيقة تمر بك ، قل لنفسك هذه العبارات :
مصيرهــا تنتهى ، كله للخير .. ربنـــــا موجود .....
إنه مزمور يبدأ بالأنين والشكوى والصراخ ، وينتهى بالشكر والفرح والتهليل والتسبيح .
+ + +
المزمور الرابع عشر
الجاهــــــل
ركز هذا المزمور ( مع مز 53 الذى يطابقه ) على الإنسان الجاهل ، وقد ظهر " الجاهل " فى سفر المزامير خمس مرات ، هنا وفى المزمور 53 حيث يقول " لا إله " 14 : 1 ؛ 53 : 1 ؛ ويهين الجاهل البار ويعيره ( مز 39 : 8 ) ، أما ما هو أشر فهو أنه يهين اسم الله ( مز 74 : 18 ، 22 ) .
" قال الجاهل فى قلبه ليس إله موجود ،
فسدوا وتدنسوا بأعمالهم .
ليس من يصنع خيرا حتى ولا واحد " [ 1 ] .
تحوى الآيات 1 – 3 مرثاة قوية عن فساد الأشرار الذين يقولون " لا إله " . هذا القول لا يعنى إلحادا عقيديا وإنما إلحادا عمليا ، فإن اقتراف الخطية بتصميم وإصرار هو جهالة وإلحاد عملى .
خلال الجهالة :
لا يستطيع الأشرار أن يقنعوا أنفسهم بأنه ليس إله ، لكنهم يشتاقون ألا يكون هناك إله . إنهم ملحدون حسب الرغبة .
ليست غباوة أعظم من نسيان الله فى الحياة اليومية .
يظهر الأشرار حماسا شديدا لآرائهم الشخصية وقوتهم وسلطانهم بل واستعدادهم للموت من أجل رأيهم الذاتى .
يتجاهل الأشرار طبيعتهم الفاسدة .
صار الجهلاء رجسين فى طرقهم وأفعالهم وانحرافاتهم . ذبائحهم وبخورهم رجس عند الرب ، حتى أعيادهم واحتفالاتهم دنسة ( أم 15 : 8 ؛ إش 1 : 13 ) .
ربما يصنع الأشرار أمورا صالحة لكن تبقى دوافعهم الداخلية شريرة .
" كلهم قد حادوا جميعا وفسدوا معا ،
وليس من يعمل صلاحا ليس ولا واحد " [ 3 ] .
خلال شبه اتحاد أو اتفاق فيما بينهم ، لأن الجميع زاغوا وفسدوا ، الكل قد تدنس وارتد !
" ليس من يعمل صلاحا ليس ولا واحد "
إنه فساد الطبيعة البشرية بسبب خطية آدم وحواء، أصبحت البشرية فى حاجة إلى تجديد طبيعتها الفاسدة !
وإذ رأى " الكلمة " أن فساد البشر لا يمكن إبطاله بأية وسيلة سوى الموت كشرط ضرورى .. فلهذه الغاية أخذ لنفسه جسدا قابلا للموت ..
" من يعطى من صهيون خلاصا لإسرائيل ( الكنيسة ) ،
إذا ما رد الرب سبى شعبه ؟!
فليتهلل يعقوب ويفرح إسرائيل " [ 7 ]
التحرر من السبى معناه المتحرر من أى شر وبيل وأية ضيقة عظيمة . لقد كنا فى سبى إبليس حتى جاء الإبن فحررنا بصليبه ، مانحا إيانا بهجة وخلاصا !
+ + +
المزمور الخامس عشر
الحياة على قمم الجبال
يبدو مناسبا جدا أن يلى هذا المزمور المزمور السابق ( 14 ) مباشرة ، فالسابق يكشف عن خصال الشرير أما هذا المزمور فيكشف عن خصائص الإنسان التقى .
ربما يعبر المزمور عن أعماق أفكار داود وهو فى المنفى ، حيث كان محروما من العبادة فى بيت الرب .
كان هذا المزمور جزءا من مزامير الأحتفال عند باب الهيكل . كان الهيكل هو بيت الله الذى لا يمكن دخوله إلا فى أوقات معينة وبشروط خاصة . وكان الزائر الذى يحج إلى هذه الأماكن المقدسة يلتزم بأن يستأذن الكاهن المختص متى رغب فى الدخول ، فيسأل :
" يارب من يسكن فى مسكنك ؟ أو من يحل فى جبل قدسك ؟ [ 1 ]
يجيبه حارس البيت مقدما السمات المطلوبة للدخول ...
يسأل الزائر [ العلمانى ] ويجيب الكاهن لا بتقديم قائمة عن التزامات طقسية خارجية وإنما التزامات تمس فحص ضميره ..
" يارب من يسكن فى مسكنك ( خيمتك ) ؟!
أو من يحل فى جبل قدسك ؟! [ 1 ] .
يتساءل المرتل : يارب أنت هو القدوس الساكن فى السموات ، من يقدر أن يقترب إلى مسكنك أو تكون له شركة معك ؟ السماء ليست بطاهرة فى عينيك ، وإلى ملائكتك تنسب حماقة فكيف يستطيع الإنسان القابل للموت أن يقترب إلى بهاء لاهوتك ؟
يؤمن المرتل أن الذى لم يتهيأ للكنيسة السماوية المجيدة فى الدهر الآتى لا يستحق العضوية الروحية فى الكنيسة هنا على الأرض .. من سوف لا يشترك فى شركة الحياة الأبدية هو غريب حتى عن ملكوت الله هنا .
سمات ضيف الله :
1 – بلا لوم
2 – " السالك بلا عيب ويعمل العدل " [ 2 ]
3 – " ويتكلم الحق فى قلبه " [ 2 ]
4 – يحب قريبه : " الذى لم يغش بلسانه ، ولم يصنع بقريبه سوءا ، ولم يقبل عارا على جيرانه " [ 3 ] .
5 – احتقاره الأقوياء الأشرار وتكريمه خائفى الرب :
" فاعل الشر مرذول أمامه ،
ويمجد الذين يتقون الرب " [ 4 ] .
6 – يفى بكل وعوده للناس ، مثبتا إخلاصه لهم :
" الذى يحلف لقريبه ولا يغدر به " [ 4 ] .
7 – لا يعطى أمواله بالربا ولا يرتشى على الأبرياء [ 5 ]
يليق بالراغب فى سكنى بيت الله أبديا ألا يقرض ماله بالربا ولا يأخذ رشوة على البريء ، بل يمتلىء قلبه حبا وحقا ، بهذا يتحقق ما ختم به المرتل المزمور : " الذى يصنع هذا لا يتزعزع إلى الأبد " .
+ + +