المزمور الثامن عشر
نعمة الملوكية
هذا المزمور الذى يطابق 2 صم 22 هو مزمور شكر ملوكى ، ليس من أجل انتصار عسكرى ناله المرتل مرة واحدة ، وإنما من أجل كم هائل من تدخلات الله المملوءة رأفات ، من أجل حياة كاملة غنية باختبارات محبة الله المترفقة . إنها قصيدة انتصار سجلها داود فى أواخر حياته بعد أن استراح من جميع أعدائه ، وعلى رأسهم شاول ، وقد أنقذه الرب من بين يديه . فبالرغم من إخلاص داود له لم يكف عن أن يتعقبه بلا شفقة .
مزمور مسيانى ملوكى
اقتبس القديس بولس هذا المزمور مرتين بكونه يخص السيد المسيح ( رو 15 : 9 ؛ عب 2 : 13 ) . ويطبق بعض المفسرين المزمور كله على السيد المسيح . وهو يصنف كمزمور مسيانى ، إذ أوضح داود أن ملكه إنما كان صورة ورمزا لمملكة المسيح . لقد اكتشف أن الخلاص الحقيقى لا يتحقق بهلاك شاول ورجاله بل بهلاك إبليس وجنوده الروحيين ، خلال نصرة المسيح وموته وقيامته ومجده وملكوته . لقد أقامنا ملوكا روحيين ( رؤ 1 : 6 ) .
يرى البابا أثناسيوس الرسولى أن المزمور يتضمن سبعة أمور :
1 – مقاومة الأعداء لنا
2 – الأستعانة بالله .
3 – نزول السيد المسيح إلينا ليخلصنا .
4 – صعود الرب إلى السماء .
5 – الله ينقذ الإنسان من الأعداء .
6 – رفض اليهود ( فقدان كرامة البنوة لله وصيرورتهم غرباء )
7 – قبول الأمم ( قبولهم نعمة الملوكية بالإيمان خلال السماع ) .
خلاص من براثن الموت [ 1 – 5 ]
" أحبك يارب قوتى ،
الرب هو ثباتى ( صخرتى ) وملجأى ومخلصى ،
إلهى عونى وعليه أتكل .
عاضدى وقرن خلاصى وناصرى " [ 1 ، 2 ] .
هذه هى تسبحتنا ، إذ نعرف أننا فى المسيح نستطيع أن نعبر من براثن الموت إلى شركة الأمجاد السماوية . هنا نجد قائمة تكاد تكون كاملة للإستعارات المختلفة الخاصة التى تعبر عن قوة الله وخلاصه .
علاقتى بالله شخصية هذا الذى أحبه بكونه " قوتى " بكل ما لهذه الكلمة من معنى ، إنه يسندنى ، ويمنحنى الشجاعة والنجاح والأستقرار .
قوة القيامة :
" وفى شدتى دعوت الرب ، وإلى إلهى صرخت .
فسمع صوتى من هيكل قدسه .
وصراخى قدامه يدخل فى أذنيه .
تزلزلت الأرض وصارت مرتعدة .
اضطربت أساسات الجبال وتزعزعت ،
لأن الرب سخط عليها " [ 6 ، 7 ] .
سماع الله للصلاة ليس أمرا جديدا ، إذ يسر الله أن يسمع صرخات مؤمنيه الصادرة من الأعماق . سمع الله لداود من الهيكل ، أى من الخيمة حيث يوجد التابوت ، أو من السماء عينها ، لأن الهيكل الأرضى رمز للسماوى .
الله الكلى الحب ، الكلى الوداعة ، يعلن ذاته نارا آكلة للعدو المقاوم للمجد الإلهى أو لشعبه المسكين ، لهذا يقول المرتل :
" ارتفع الدخان برجزه ،
والنار التهبت من أمام وجهه ،
والجمر اشتعل منه " [ 8 ]
هذا التصوير يعلن غضب الله لا كأنفعال للأنتقام ولكن بكونه العدالة التى لا تقبل الظلم ، والقداسة التى لا تطيق الخطية .
" طأطأ السموات ونزل ،
والضباب كان تحت رجليه " [ 9 ]
ما كان ممكنا للإنسان وقد انحدر إلى الموت أن يلتهب بنار الحب الإلهى ، وتشتعل فيه الجمرة المقدسة ، ما لم ينزل السماوى نفسه إليه ، يطأطى ء السموات ليلتقى بنا على أرضنا ، فيهبنا روحه القدوس النارى . نزل إلينا متجسدا ، فأخفى بهاء لاهوته ، لأنهم لو عرفوا لما صلبوا رب المجد ( 1 كو 2 : 8 ) ...
هذا ما عبر عنه المرتل بقوله : " الضباب كان تحت رجليه " . اختفى مجده وانحجب عن الأعين البشرية كما بضباب قاتم ...
مع كل ضيقة يستطيع المؤمن أن يتمتع بالجالس على المركبة الشاروبيمية ، واهب الخلاص ، إذ يقول المرتل :
" ركب على الشاروبيم وطار .
طار على أجنحة الرياح " [ 10 ]
... أى ركب بعيدا فوق حدود كمال المعرفة ، مظهرا أنه لا يقدر أحد أن يقترب منه إلا بالحب ، لأن المحبة هى تكميل الوصايا ( رو 13 : 10 ) .
" طار على أجنحة الريح " إعلانا عن سرعة مجيئه لخلاص أولاده ، دون أن يوجد عائق فى الطريق .
" جعل الظلمة حجابه ، تحوطه مظلته " [ 11 ]
نزل إلينا ليخلصنا بنفسه ، لكنه احتجب فى الناسوت ، لكى نقبله بالإيمان ، فإن كانت البصيرة الخارجية يصعب أن تخترق الضباب المحيط به كمظلة لتدرك أسراره ، فإنه بالإيمان تستنير بصيرتنا الداخلية القادرة أن تدخل إلى الأعماق وتلتقى به وتتعرف على أسراره الخفية .
يقول إشعياء النبى : " حقا أنت إله محتجب " 45 : 15 ، يقول المرتل : " السحاب والضباب حوله " مز 97 : 2 .
" من لميع وجهه جازت السحب ،
قدامه بردا وجمر نار " [ 12 ] .
يرى البعض أن المرتل هنا يصف البرق ، أسهم الله التى تنتشر وتهزم أعداء داود ، فإن الله لا تنقصه الوسيلة ليحقق غضبه ونشر قوته الخلاصية . وكأنه يمزق السحاب إربا ، ويرسل سهامه التى لا يعوقها السحاب بل تقتحم السحاب كأنه غير موجود . تنفتح السماء بأكملها كما يحدث أثناء البرق ( حيث يبدو كأنه يمزق السحب ) .
" أرعد الرب من السماء ،
والعلى أعطى صوته " [ 13 ]
هكذا نتقبل كلمة الله ، خاصة النبوات التى سبق فتحدثت عن الخلاص كرعد صدر من السماء ... يتكلم الله فتهتز السماء والأرض ، يتحدث بكلماته كما بأعماله .
" ظهرت عيون المياة ،
وانكشفت أساسات المسكونة ،
من انتهارك يارب ،
ومن نسمة ريح رجزك " [ 15 ]
ما هى عيون المياة التى ظهرت إلا المعمودية ،
إذ يقول إشعياء النبى : " فتستقون مياها بفرح من ينابيع الخلاص " 12 : 3 .
أما أساسات المسكونة ، أى التلاميذ ، فيتكئون على السيد المسيح حجر الزاوية الذى رفضه البناؤن فى البداية ، وعلقوه على خشبة ، فصار ذلك خلاصا لكنيسة الله وبنيانا لها على مستوى سماوى .
" مع البار بارا تكون ،
ومع الرجل الزكى تكون زكيا .
ومع المختار تكون مختارا ،
ومع المعوج تتعوج " [ 25 ، 26 ] .
الرحوم ينعم برحمة الله ، والحنون يتمتع بحنانه الإلهى ، والكريم يختبر كرم الله ، أما الذى يصر على أن يكون قاسيا فيترك لتصرفاته ، ويحرم نفسه من لطف الله .
" لأنك أنت تنير سراجى ،
إلهى يضيىء ظلمتى " [ 28 ] .
يفيض قلب المرتل بالشكر والثقة معترفا أن الله يضيىء سراجه ، بمعنى أن الله يهبه الحياة الحقة ، إذ لا انفصال بين الأستنارة والحياة ، فعندما تعرض داود فى أواخر أيامه للقتل أشار عليه رجاله ألا يعود يخرج إلى الحرب حتى لا ينطفىء سراج إسرائيل ( 2 صم 22 : 17 )
+ مصباحا واحدا أنظر ، وبنوره أستضىء ، والآن أنا فى ذهول ، أبتهج روحيا ، إذ فى داخلى ينبوع الحياة ، ذاك الذى هو غاية العالم غير المحسوس .
" إلهى طريقه نقية ،
كلام الرب مختبر بالنار ،
وهو ناصر جميع المتكلين عليه " [ 30 ]
طريق الرب الضيق نقى ، من يدخله يدرك كمال الطريق من جهة الحب والرحمة والعدالة والقداسة والصلاح والأمان والضمان والنجاح . علينا أن نبدأ الطريق الإلهى وننتظر لنرى نهايته .
+ + +
المزمور التاسع عشر
الله يعلن عن ذاته
ربما كان داود يتأمل جمال السموات وقت السحر حين ألهم بكتابة هذا المزمور .
تعلن الخليقة عن قدرة الله ومجده ، أما كلمته فتعرفنا حب الله الخلاصى من أجل تقديسنا ، أى تعلن عن قداسته . ومن خلال خبرتنا اليومية نكتشف العلاقة الشخصية بين الله وكل عضو من أعضاء الكنيسة ، التى تتحقق خلال نعمته الإلهية .
" السموات تذيع مجد الله " [ 1 ]
السموات هى الكتاب الذى يمكن للعالم كله أن يستقى منه معرفته بالله . يكشف علم الفلك عن بعض عجائب السموات غير المدركة . القليل الذى نعرفه عن ملايين النجوم والمجموعات الشمسية يكشف عن مجد الله ، كما يقدم لنا شعورا بالفرح إذ خلق الله الكون كله لأجلنا . فنحن الخليقة الترابية ننظر إلى فوق نحو السموات ، متأملين أعمال الله ، ممجدين إياه ، لا نعيش كالحيوانات متطلعين بأنظارنا إلى أسفل نحو الأرض .
+ التناغم الرائع الذى للسموات يعلن عن الحكمة التى تشع فى الخليقة وتبرز عظمة مجد الله من خلال الأمور المنظورة .
" يوم إلى يوم يبدى كلمة ،
وليل إلى ليل يظهر علما " [ 2 ]
كل الأيام والليالى هى ينابيع تفيض بمجد الله وتعلن مراحم الله ورعايته المتجددة فى حياتنا . تفتح قلوبنا بالحب المتجاوب مع حب الله فنسمع صوته الإلهى إلينا بكلمة خاصة بنا ، وينير أذهاننا بالعلم الروحى والمعرفة .
مع كل نهار إذ يشرق شمس البر ينطق المؤمنون بكلمات جديدة تعكس تجديدهم المستمر وخبرتهم مع الثالوث القدوس . تصير حياتهم ينبوعا يفيض مياة حية بلا توقف .
" ليس أقوال ولا كلام ،
الذى لا تسمع أصواتهم ،
فى كل الأرض خرج منطقهم ،
وإلى أقطار المسكونة بلغت أقوالهم " [ 3 ، 4 ] .
تشهد الكنيسة للإنجيل بحياتها أكثر مما بكلماتها . إذ يسكن كلمة الله فى حياتنا الداخلية ينطق للآخرين حتى بصمتنا . بالحياة المقدسة فى المسيح نعلن عن الأخبار السارة خلال الصمت كما بالكلمات .
" جعل فى الشمس مظلته ( مقدسه ) ،
وهو مثل العريس الخارج من خدره " [ 5 ]
الشمس فى العبرية كما فى الآرامية " مذكر " ، لهذا تقارن الشمس بالعريس .
السيد المسيح – العريس السماوى – هو شمس البر الذى يشرق والشفاء فى أجنحته ( ملا 3 ) .
فى كبد السماء نصبت الشمس خيمتها ، وتبدو كأنها تسير مثل ملك جبار فى موكب علنى عالمى ، تشع ببهائها على مشارق الأرض ومغاربها .. إنها كملك يرحل ، يضرب خيمته ثم سرعان ما يخلعها ويرحل إلى موضع آخر .
تشرق الشمس بنورها وتبعث حرارتها لتهب حياة ، هكذا جاء شمس البر يشرق على نفوس مؤمنيه فى المشارق والمغارب ليهبهم استنارة ودفئا روحيا وحياة متجددة على الدوام .
+ إنه هو الذى يعد خيمته – الكنيسة – فى الشمس ، على مرأى من جميع الناس .
" ناموس الرب بلا عيب ، يرد النفوس ،
شهادة الرب صادقة ، تعلم الأطفال " [ 7 ]
إن كنا قد فسدنا بالخطية فلم يعد فينا أى فى جسدنا شىء صالح ، فإن ناموس الرب أو كلمة الله بلا عيب ، تحمل النفس الفاسدة إلى الصليب لتنهل من الدم الكفارى ، فتصير هى أيضا بلا عيب .
" شهادة الرب " ، تشهد عن مرارة الخطية ، وعن صدق وعود الله بالخلاص التى تقدم للنفوس الواثقة فى الرب ، كثقة الأطفال البسطاء فى والديهم ، الذين يلتقون على صدورهم كما على صخرة الحب ، يتمتعون بعهده الإلهى الصادق .
" فرائض الرب مستقيمة تفرح القلب ،
وصية الرب مضيئة ، تنير العينين عن بعد " [ 8 ] .
كلمة الرب ليست أوامر ونواه تسبب مرارة للنفس ، إنما هى علامة حب بين الله والإنسان ، تبعث الفرح الداخلى ..
" خشية الرب زكية ، دائمة إلى أبد الأبد ،
أحكام الرب أحكام حق وعادلة معا " [ 9 ]
" خشية الرب " ، بمعنى مخافة الرب هنا لا تعنى خوف العبيد إنما روح التقوى .
لئلا يساء فهم الخوف ، أبرز المرتل شوق المؤمن للكلمة وتقديره لها وإحساسه بعذوبتها ، إذ يقول :
" شهوات قلبه مختارة أفضل من الذهب والحجر الكثير الثمن ،
وأحلى من العسل والشهد .
وأن عبدك يحفظها ، وفى حفظها مجازاة كثيرة " [ 10 ، 11 ] .
الكلمة الإلهية الشاهدة عن أبوة الله وحنانه ليست فرضا نتغصبه ، وإنما هى أولا " شهوة قلب " ، تطلبها الأعماق إذ تجد فيها شبعها الحقيقى ، وهى الغنى الحق أفضل من الذهب والحجر الكريم ، وعذبة أحلى من العسل والشهد ، بجانب هذا كله تقدم مجازاة كثيرة ... أبدية لا يغبر عنها . إنها فوق كل غنى العالم وقيمه وملذاته الأرضية .
" ...... وتكون جميع أقوال فمى بمسرة ،
وتلاوة قلبى أمامك فى كل حين ،
يارب أنت معينى ومخلصى " [ 14 ]
هكذا يختم المرتل المزمور بالسرور والفرح المعلنين بالفم والقلب ، خلال التسبيح العلنى والخفى ، لأن الله هو معيننا فى كل عمل صالح ومخلصنا غافر الخطية !
+ + +