صل الأديان
البحث في أًصل الأديان ، هو بلا شك ، عمل يعتمد إلي حد كبير علي التخمين . فالنظريات حول هذا الموضوع هي عادة كالآتي:
. الخطوة الأولى : أول المخلوقات المنتصبة كانت لا تزال حيواناً في أعماقها. والحيوان كما نعلم لا دين له. ومن المعلوم لنا أيضاَ أن الإنسان، قبل ألفي سنة في عصر يسوع المسيح، توصل إلي نمط ديني راقي جداً. لذلك يفترض حصول تطور تدريجي خلال هذه المدة، ارتقي بالدين إلي أنماطه العليا
. الخطوة الثانية : هي الافتراض أن الأنماط الدينية الأدنى يجب أن تكون شبيهة بالأنماط الدينية السائدة في قبائل العصر الحجري التي لا تزال موجودة في بعض الأنحاء النائية من عالمنا الحاضر ولم تتأثر بالحضارة المعاصرة
وكانت شعوب هذه القبائل البدائية تخاف الأرواح الهائمة في الأدغال المظلمة، وتلتجئ إلي السحرة للتداوي بالتعاويذ، وتعتقد أن أرواح الموتى ترف بين ظهرانيهم مدة من الزمن ثم تعود في أشكال أخري (مذهبة الأرواحية: الاعتقاد أن لكل ما في الكون روحاً). ويفترض بالتالي أن الأطباء السحرة، تدريجياً، أصبحوا كهنة، ونمت معهم الذبائح والهياكل والكتب الدينية.
. وكانت الخطوة التالية أن أشرقت في نفوس الناس رويداً رويداً فكرة أن محبة القريب هي جوهر الدين، والمعلم الأول الذي نادي بهذا المبدأ بكل جلاء كان يسوع المسيح، الذي أسس الدين المسيحي أو النمط الأرقى بين الأديان
بدايات الجنس البشري
. إذا كان هذا الضرب من التخمين صحيحاً، فلا يعول – تاريخياً - علي الفصول الأولي من الكتاب المقدس وأجزاء كثيرة من العهد القديم
. وهذا هو السبب في أن كثيرين يحبون تعاليم المسيح لكن لا يكلفون أنفسهم عناء قراءة سفر التكوين. لقد أخذ علماء العهد القديم، في أوج انتشار فلسفة التطور، يعملون علي تنظيم ما يعتقدون أنه التاريخ الحقيقي المتضمن في العهد القديم من جديد، حسب نظرياتهم حول تطور الدين
ماذا الذي يخبرنا به سفر التكوين ؟
. إذا ما أردنا حقيقة أن نعرف شيئاً عن أصل الأديان ، فإنه من اللازم علينا أن ندرس بدقة ما ورد في الكتاب المقدس عن الدين الأول للإنسان . ومع أنه قد نشأ كثير من سوء الفهم بين الناس ، وذلك لأنهم رغبوا في أن يجدوا في ما ورد فيه أكثر مما هو موجود بالفعل . وأول حقيقة يخبرنا بها سفر التكوين هي ، أن بداية الجنس البشري كانت بذكر واحد وأنثي واحدة. وهذا الأمر يتطلب وجود رجل حقيقي وامرأة حقيقية في البداية، وأن يكونا قادرين علي التناسل والتكاثر، بغض النظر عما يقوله العلماء عن نشوئنا من أشكال حياة أدني إن كان هذا صحيحاً أم لا
. ماذا كان هذان الزوجان الأولان من البشر يشبهان؟ هل كانا يسكنان الكهوف ووجهاهما يشبهان الغوريلا وظهراهما محدودبان؟ يصمت الكتاب المقدس عن تفاصيل كهذه، فلا نعلم هل كانا أبيضان أم أسودان، محدودبان أم منتصبان، طويلان أم قصيران،…. غير أن الكتاب المقدس يقدم لنا ثلاث حقائق أساسية حول طبيعة الإنسان الأول
: أولاً : إنه جزء من الطبيعة
. لقد جبل الله الإنسان الأول من "تراب الأرض" (تكوين 2 : 7).ومن هنا اسمه بالعبرية " آدم " ، وهي عبارة تعني " إنسان " ومشتقة من "أدما " أي التراب ، أي أن جسده يتكون من نفس العناصر التي تتكون منها مادة الكون .ولا غرابة إذا من أن التحليل الكيميائي يظهر أن جسم الإنسان يتألف من الكربون والكلسيوم والفوسفور والحديد والماء وما شابه ، وهي بالفعل العناصر التي يتكون منها الكون . ثم في التصنيف الحيواني، يقع الإنسان الأول في صف الحيوان بمعني أن له نسمة حياة وجهاز تنفس مشابهاً لما لوحوش الأرض والطيور والزحافات (قارن تكوين 2 : 7 و 1 : 3.)
: ثانياً : إنه أسمى من الطبيعة
ولكن الإنسان ، وهو ، كما رأينا ، جزء من الطبيعة ، إنما هو بآن معاً أسمى من الطبيعة ، لأن الله ميزه عن سائر المخلوقات بعلاقة خاصة أقامها بينه وبين الإنسان . هذه العلاقة الخاصة يعبر عنها سفر التكوين بقوله : " وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا ، فيتسلطون على سمك البحر ، وعلى طير السماء ، وعلى كل البهائم ، وعلى كل الأرض ، وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض " (تكوين 1 : 26، 27).
. فالأمر الذي ميز الإنسان الأول عن كل الحيوانات هو أنه خلق علي صورة الله ، ومن المهم أن نذكر أنفسنا أن الإنسان في الكتاب المقدس لم يعرف به كإنسان لكونه يسير منتصباً، أو نسبة لحجم دماغه، أو لأنه يستعمل اللغة، أو بسبب ذكائه المميز. فبين البشر كثيرون يسيرون منحنين، ولهم أدمغة صغيرة الحجم، وبالعسر يقدرون علي النطق. وبين الحيوان من جهة أخرى أنواع ذكية جداً
. إن ما يجعل الإنسان أنساناً حقاً هو كونه خلق علي صورة الله
. طبعاً، لا يشبه الإنسان الله في شكله، أو جبروته، أو قدرته علي الوجود في أكثر من مكان في الوقت ذاته، إنما صورة الله في الإنسان تفيد أن الإنسان قادر علي فهم صوت الله وعلي اتخاذ قرار حر ليصغي إليه (تكوين 2 : 16، 17، 3 : 9 – 13).كما أنه من سياق النص ، يفهم أن وجه الشبه بين الإنسان والله الذي يتم التركيز عليه هنا ، إنما هو السلطة التي مُنحت للإنسان على الطبيعة ، إذ أن التركيز هنا لا على طبيعة الإنسان ، بل على دوره . وكأن الله أقام الإنسان وكيلاً له وانتدبه ليسوس الأرض باسمه ( مما يلتقي بما ورد في القرآن بأن الله جعل الإنسان " خليفة " له في الأرض : " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة … " سورة البقرة 2 : 3. )
وبالطبع هذا يقودنا إلى السؤال : هل تتفق رواية سفر التكوين ، عن خلق الإنسان ، مع ما تقوله اليوم نظرية الارتقاء والتطور ؟
. يبدو لمن أخذ رواية التكوين بمعناها الحرفي ، أن الإنسان خرج مباشرة من تراب الأرض ، في حين أن نظرية التطور ، المبنية على أسس الاستقصاء العلمي ، تقول بأن الإنسان إنما وليد ارتقاء الحياة من مرتبة إلى مرتبة ، بعد أن برزت في أبسط أشكالها من الطبيعة الجامدة ، وتصاعدت تدريجياً طيلة مئات ملايين السنين
لكننا نلفت انتباه ، القارئ ، بأن القصد من سفر التكوين ليس كشف الحقائق العلمية للناس – وهي الحقائق التي بمقدور الإنسان أن يسعى إليها بعقله ، بل التعبير عن حقائق إيمانية عن الله وعلاقته بالإنسان ، عبر التصورات الأسطورية السائدة في العهد الذي كتب فيه ، والتي اتخذ الله منها لغة يخاطب بها ذهنية أهل ذلك العصر ، ومن خلالهم ينقل كلمته إلى سائر العصور .من هنا نجد أن قصد سفر التكوين أن يعلمنا أن الإنسان برز إلى الوجود بفعل عمل الله الخلاق الذي أوجده من عناصر الكون ، ولكنه جعله أعلى مرتبة من الكون بالصورة الإلهية التي شرفه بها . أما كيف تم هذا الخلق في الواقع الراهن ، وما هي المراحل التي مر بها ، فهذا أمر متروك لاستقصاء العقل الإنساني عبر وسائل التنقيب العلمي ومناهجه .
. لذا ، ليس هناك أدنى مانع ، من الناحية الإيمانية ، في أن يكون الإنسان قد برز من عناصر الكون بفعل الله الخلاق قد تم ، لا بشكل مباشر ، بل عبر سلسلة طويلة من الحلقات التي يتألف منها سياق تطور الحياة
بدايات الدين
. عندما نبحث في أصل الدين- وبحسب الكتاب المقدس - نجد أنه يبدأ في إنسان قادر علي الاستجابة لصوت الله
. في بداية سفر التكوين، نستدل أن الإنسان أحب الله من كل قلبه وأحب أخاه الإنسان كنفسه، غير أننا نجد في الفصلين الثالث والرابع أن الخطيئة دمرت هذه المحبة التي يكنها الإنسان لله ولأخيه الإنسان
! في تلك الحالة المبكرة ما احتاج البشر إلي هياكل للعبادة أو كهنة أو ذبائح، ولكن عندما اقترفت الخطيئة فقط برزت الحاجة إلي الذبيحة، كطقس وسيط ، من خلاله يمكن إصلاح ذلك الخطأ
. جاء في الإصحاح الرابع من سفر التكوين أن قايين جاء بثمر الأرض ليقدم لله، بينما أحضر هابيل من غنمه. رضى الله عن الذبيحة الحيوانية التي قدمها هابيل ورفض تقدمة قايين لأنه عرف دوافع قلبيهما. وهذا يقودنا إلى أنه هناك ثمة طريقة واحدة يمكن فيها للإنسان الخاطئ أن يتصل بالله القدوس، هي سفك الدم، أي الموت، لأن الخطيئة تعني قطعاً الانفصال عن الله، وهذا معناه الموت
. في البداية كان رأس العائلة أو شيخ القبيلة يرأس تقديم الذبيحة.وهذا ما نجده في زمن ما بعد الخروج من مصر ، حيث أقام موسى أسرة خاصة من الكهنة من نسل هارون تشرف علي تقديم الذبائح الصباحية والمسائية والأسبوعية، والشهرية والخاصة. وبعد ذلك في زمن سليمان بني هيكل للغرض ذاته. واستمرت الذبائح تقدم عند اليهود حتى سنة 7. ب. م. أي 4. سنة بعد موت المسيح.هذا ولم يكن تقديم الذبائح عملاً بدائياً أو بربرياً. ففي مدنية عالمنا الحاضر، تذبح الألوف من الحيوانات يومياً وتباع طعاماً للناس .وقد كان لمقتل كل حيوان في العهد القديم معنى رمزياً " دينياً ". ومعنى هذه الذبائح أضحى جلياً تماماً، فقط في موت يسوع المسيح علي الصليب (أنظر يوحنا 1 : 29، عبرانيين 9 : 11 – 14)
تطور الدين
. كان دين الإنسان الأول حسب الكتاب المقدس مؤسساً علي فكرة التوحيد، أي الإيمان بالله الواحد، ودلت الذبائح الحيوانية علي إمكانية الغفران والقبول عنده. هذا يساعدنا علي فهم تاريخ الدين في مراحله اللاحقة. إلا أننا نجد في العهد القديم أمثلة كثيرة ، أيضاً ،لانجذاب الإنسان مرة بعد أخري ليترك الإيمان بالله الواحد وينحرف إلي الإيمان بآلهة عديدة، وفي زمانه كان تعدد الآلهة هو الإيمان السائد في الهند. كما تظهر الإلياذة والأوديسة الإيمان المعقد بتعدد الآلهة عند اليونان في زمن هوميروس
الكهانة والسحر
. وثمة تجربة أخرى مشابهة ودائمة هي أن يغير الإنسان الفكرة من الذبيحة التي هي عمل نعمة من الله ،والتي تؤمن الغفران للإنسان، إلي مجرد شعائر دينية قيمتها في ممارستها. كان البراهمة في الهند وكهان مصر واليونان يدعون أن ذبائحهم ترضي الآلهة وتجلب البركة علي مقدميها. وهذه النظرة الخاطئة – ليست الذبائح بحد ذاتها – هي التي دانها أنبياء إسرائيل العظام. يتطلب الأمر فقط خطوة واحدة وتتدهور الكهانة إلي السحر ثم إلي دين قبلي له أطباؤه السحرة. وهكذا نجد أن الدين قابل دائماً لاتخاذ مسار نحو أنماط أدنى مثل الاعتقاد بتعدد الآلهة والكهانة والسحر
. في هذا الإطار من الانحطاط الديني علينا أن نفهم دعوة الله لإبراهيم ليخرج من أور الكلدانيين، مدينة السحر والوثنية، ليعبد الله الواحد الحق بإيمان بسيط مؤسس علي ذبائح بحسب سنة الله. وبعده موسى كان عليه أن يعلم بني إسرائيل، الذين أفسدت مصر إيمانهم، أن يعبدوا الله الواحد الحق ويقدموا ذبائح بطريقة تدل بوضوح علي انعدام أي أثر للسحر في ممارستها
الحفاظ علي الدين الحق
. إذاً، يرسم الكتاب المقدس المسار التاريخي لانحطاط الدين، من جهة، وبعث الأنبياء لرد الاعتبار للدين الحقيقي إلي ما كان عليه وإصلاحه، من أخرى
. في الليلة التي سبقت موت يسوع، وضع يسوع بواسطة الخبز والخمر رمزاً يذكرنا بذبيحته النهائية. لقد توقفت عملية تقديم الذبائح الحيوانية عند اليهود وعند شعوب كثيرة غيرهم. لكن هذا لم يوقف بالضرورة الاتجاه نحو الانحطاط الديني. فالتجربة دائماً قائمة في الكنيسة المسيحية وفي أديان مثل الهندوسية علي أن يعتبر الكهنة الشعائر التي يقيمونها وسيلة لإجبار الله علي منح بركته في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى
الكتاب المقدس والأنثروبولوجي
. حيث أن عبادة الله الواحد بواسطة الذبائح لا تترك أدلة ينبشها علماء الآثار. يجب أن نرتاب في المحاولات الجارية لإعادة بناء نظام الدين البدائي علي التخمين استناداً إلي بضعة جماجم ورسوم علي جدران الكهوف
. قبل إبراهيم بزمن طويل، كان المصريون القدماء والسومريون وشعب حضارة نهر الهندوس في الهند يبنون الهياكل ويعبدون الأصنام. هذه الأديان وممارستها تشير إلي حدوث انحطاط في المسار الديني، وكان واجب إبراهيم إقامة دين الحق من جديد ورده إلي حالته الأولى، لا الصعود خطوة في سلم نشوء الدين وارتقائه
. في القرن السادس ق. م، علم بوذا، مؤسس البوذية، وماهافير، مؤسس اليانية، أن باستطاعة الإنسان الحصول علي الخلاص بمجهوداته، ورفضا ممارسة تقديم الذبائح الحيوانية، وأوصيا بالنباتية، أي العيش علي الخضار والفاكهة والحبوب فقط. وكان كلاهما علي حق في رفض السحر الكهنوتي عند البراهمة، لكنهما لم يدركا السنة التي وضعها الله لمغفرة الخطايا
. يسود الافتراض بأن قبائل العصر الحجري التي اكتشفت في المائة سنة الأخيرة تقدم لنا نماذج عن الدين البدائي الأصلي. هذا الافتراض لا أساس له في الواقع. فمثلاً، تدل الأبحاث فعلياً على أن كل القبائل المدعوة بدائية، يتوارث أهلها اعتقاداً "بإله أعلى" يتصف بالأبوة والصلاح. وهناك أيضاَ براهين متضافرة تظهر أن الذبائح التي يقدمها الأطباء السحرة لغايات السحر هي انحطاط من أنماط دينية عالية أكثر منها بقايا دين بدائي