المزمور التاسع والثلاثون
الأحداث والزمن
مرثاة شخصية يندها انسان متألم فى مستهل حياته ، يشعر بثقل الخطية . إنه يقف فى صمت يتأمل بطلان الحياة الزمنية ، مشتاقا أن يثب قافزا فوق الزمنيات ليتهيأ للخروج من أرض غربته ليحيا مع الله مخلصه ومقدسه .
ضعف الإنسان وزواله [ 1 – 6 ]
أولا : الصمت الحكيم [ 1 – 3 ]
" قلت : غنى احفظ طريقى لئلا أخطىء بلسانى .
وضعت على فمى حافظا ،
إذ وقف الخاطىء تجاهى " [ 1 ] .
يرى القديس أمبروسيوس أن المرتل قال فى نفسه أى تحدث مع نفسه حينما صمت مع الأشرار ، وكأن الصمت الداخلى فى حضرة الأشرار يلز أن يصحبه حديث سرى مع النفس فى حضرة الله ، أو حوار مع الله نفسه .
كثيرا ما يتحدث المرتل عن اللسان وخطورته . فإنه إذا انزلق اللسان ينزلق معه الجسد كله وتنحرف قدماه عن الطريق الملوكى . لهذا يقول المرتل : " قلت إنى احفظ طريقى لئلا أخطىء بلسانى " . يقول القديس بطرس : " لأن من أراد أن يحب الحياة ويرى أياما صالحة فليكفف لسانه عن الشر وشفتيه أن تتكلما بالمكر " 1 بط 3 : 10 .
" صمت واتضعت ،
وسكت عن الخير ،
فتجدد وجعى ،
وحمى قلبى فى باطنى .
وفى هذيذى تتقد النار " [ 2 ، 3 ] .
صمت داود النبى كما لو كان عاجزا عن الكلام تماما ، أو كما لو كان أبكما . توقف حتى عن تقديم كلمات مقدسة لأن الشرير يقف مقابله ليقاومه ، إنه لا يود أن يقدم القدسات للكلاب ، ولا أن يضع درره للخنازير ( مت 7 : 6 ) .
سكت عن الخير ، أى عن الحديث الإيمانى ، ليس خوفا من الشرير ، ولكن لإدراكه أن الكلام لن يزيده إلا عنفا .
" عرفنى يارب نهايتى ،
وعدد أيامى كم هى ،
لكيما أعلم ماذا يعوزنى " [ 4 ] .
إن قدرا كبيرا من الحكمة يقوم على تذكر أن حياتنا على الأرض أشبه بالخيال ، وأن أعظم الأعمال إن لم تهيئنا للعالم الأفضل الأبدى هى أدنى بكثير من إشتياقات الإنسان التقى .
لذا كثيرا ما يكرر الكتاب المقدس قصر الحياة الزمنية ، فيقول الرسول بولس " الوقت مقصر " 1 كو 7 : 29 كحقيقة هامة تمس إيماننا الحى وكياننا الأبدى . هنا لا يطلب المرتل داود أن يعلن له الله عن زمان انتقاله بل أن يمنحه تذكرا دائما ومعرفة عملية وتقديرا حسنا لقصر أيام غربته ليصير إنسانا أفضل وأكثر حكمة .
" هوذا قد جعلت أيامى بالية ،
وقوامى كلا شىء أمامك " [ 5 ] .
+ لأن تلك الأيام هى أيام " قدم " ، أما أنا فأتوق إلى أيام جديدة لا تشيخ أبدا ، لكى أقول : " الأشياء العتيقة قد مضت ، هوذا الكل قد صار جديدا " 2 كو 5 : 17 ، صار جديدا بالفعل فى الرجاء ثم فى الواقع .
الإنسان الذى يسعى نحو الأشياء الجديدة متخطيا الأمور التى مضت يقول : " عرفنى يارب نهايتى ، وعدد أيامى كم هى ، لكيما أعلم ماذا يعوزنى " [ 4 ] .
تأملوا كيف وهو ما يزال يسحب معه آدم يسرع الخطى نحو المسيح .
اكتشاف المرتل بلاء أيامه جعله يسرع نحو تخطى أو الوثب على القدم ليتمتع بالحياة الجديدة التى فى المسيح يسوع ، والدائمة التجدد بروحه القدوس ، فلا تصيبها شيخوخة ما حتى يلتقى باليوم الأخير الذى لا ليل فيه ، ولا بلاء أو شيخوخة ضعف !
هكذا يكتشف المرتل أن أيامه بالية ، وقوامه ( جوهره ) كلا شىء أمام الله [ 5 ] ، كخيال يتمشى فى العالم إلى حين ، ليخرج منه ولا يعلم لمن يترك ما قد جمعه أو خزنه .
" بل ان كل الأشياء باطلة ،
ولكل انسان حى ،
لأنه بالشبه ( كخيال ) يسلك الإنسان .
بل باطلا يضطرب ،
يخزن ولا يدرى لمن يجمعه " [ 5 ، 6 ] .
هنا يتحدث المرتل على الغنى والثروات التى تجمع ظلما والتى يساء استخدامها .
+ الثروات باطلة إذا ما أنفقت على الرفاهية ، لكنها تكف عن أن تكون باطلة إذا ما وزعت على المعوزين .
2 – الصلاة ومحاسبة النفس [ 7 – 13 ]
أولا : صلاة من أجل النجاة [ 7 – 11 ] .
تعتبر الصلاة الواردة هنا من أروع وأعمق الصلوات . فإنه إذ يكشف الإنسان بطلان الحياة الزمنية مشتاقا أن يتخطاها ليبلغ اليوم الذى بلا ليل ، والواقع الذى لا خيال فيه . يضع كل رجائه فى الرب القادر وحده أن يخلصه من العدو الداخلى أى الخطية أو فساد طبيعته ومن الأعداء الخارجين كحربه مع إبليس والشر الخارجى بروح التقوى ، معلنا استعداده التام للخضوع لله الخالق والمخلص والطبيب ، كى يعالجه بكل الأدوية مهما بلغت مرارتها .
" والآن من هو انتظارى ؟ أليس الرب ؟
وقوامى من قبله هو " [ 7 ]
الآن يضع يديثون – أى الذى يتخطى الزمن – رجاءه كله فى الرب ، فلا يحطمه الزمن وبطلان الحياة الأرضية ، متظرا مجىء الرب الذى وضع فيه كل ثقته وكل حبه ، يخدمه لا طمعا فى خيرات زمنية بل فى واهب العطايا نفسه .
إذ يضع رجاءه فى الرب يثق فيه كغافر الخطايا ، معلنا قبوله التأديب حتى إن سمح الرب . له أن يكون موضع تعييرات الأشرار ، إذ يقول :
" طهرنى من جميع آثامى ،
جعلتنى عارا للجاهل " [ 8 ] .
يعترف المرتل أن خطيته جعلته موضع سخرية الجاهل وتوبيخه ، لقد بكى متضرعا لا أن يرد له كرامته أمام الجهلاء والأشرار إنما أن يطهره من جميع آثامه حتى يعبر هذه الحياة الزمنية إلى القدوس فى حياة طاهرة مقدسة فى الرب .
حقا ، لقد شعر المرتل فى ضعفه البشرى بمرارة التأديبات الإلهية فطلب أن ينزع عنه هذه السياط ، لقد ثقلت يد الله عليه حتى شعر كأنه قد فنى . لقد صمت ولم يتكلم مع الجاهل المقاوم له ، ليتحدث مع خالقه :
" صممت ولم أفتح فمى لأنك أنت صنعتنى .
انزع عنى سياطك ،
لأنى قد فنيت من قوة يدك " .
+ لأحتمى من الجاهل صرت أبكما لم أفتح فمى ، لأنه لمن أخبر عما يجرى فى داخلى ؟ فإننى أنصت إلى قول الله الرب لى فى داخلى ، " فإنه يتحدث بالسلام مع شعبه " ( مز 85 : 8 ) . [ القديس أغسطينوس ] .
صمت المرتل مع الجاهل ، أما مع الرب فدخل فى توسل يطلب الرحمة . وهو يعنى بالصمت أيضا أنه ليس لديه ما يدافع به عن نفسه أمام خالقه ، فقد صمت عن تبرير ذاته ، إنما يفتح فاه مترجيا رأفاته .
تضرع القديس بولس ثلاث مرات لكى يرفع الله عنه شوكة المرض ، فكانت الإجابة : " تكفيك نعمتى لأن قوتى فى الضعف تكمل " 2 كو 12 : 9 .
وإذ اختبر الرسول نعمة الله وبركة الضيقات قال : " فبكل سرور أفتخر بالحرى فى ضعفاتى لكى تحل على قوة المسيح ، لذلك أسر بالضعفات والشتائم والضرورات والأضطهادات والضيقات لأجل المسيح ، لأنى حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوى " 2 كو 12 : 9 ، 10 .
" أدبت الإنسان بالتوبيخات من أجل الإثم ،
وأذبلت مثل العنكبوت نفسه .
بل باطلا اضطرب كل إنسان " [ 11 ] .
خلال تأديبات الله بسبب الإثم يدرك المؤمن أن حياته أشبه بنسيج العنكبوت ، وأنه باطلا يضطرب لأجل الزمنيات .
ثانيا : توسل لأجل استجابة الصلاة [ 12 – 13 ] .
يختتم المرتل المزمور بتوسل إلى الله كى يستجيب صلاته السابقة ، مقدما هذا التوسل مشفوعا بدموعه التى لا تجف ، وبإعترافه بتغربه واشتياقه إلى اجتياز العالم كأرض غربة متمتعا بغفران خطاياه .
" استمع صلاتى وتضرعى ،
وانصت إلى دموعى ولا تسكت عنى " [ 12 ]
بدأ الصلاة ، وإذ اشتدت الضيقة امتلأ قلبه تنهدات فصرخات ، وأخيرا صارت دموعه تتحدث بلغة يعجز اللسان أن ينطق بها .
" لأنى أنا غريب على الأرض ،
ومجتاز مثل جميع آبائى ،
اغفر لى لكيما أستريح قبل أن أذهب فلا أوجد أيضا " [ 13 ] .
من أقوال القديس يوحنا الذهبى الفم :
+ كان القديسون غرباء ونزلاء فى هذا العالم ... عاش إبراهيم فى كل أموره ينتمى للمدينة الباقية . لقد أظهر كرما ومحبة أخوية ورحمة وطول أناة ، وزهدا فى الثروة وفى المجد الزمنى وفى كل شىء .
+ لنكن غرباء كى لا يخجل الله من أن يدعى إلهنا ، لأنه من الخزى لإلهنا أن يدعى إله الأشرار ! إنه يخجل من الأشرار ، ويتمجد إذا ما دعى إله الأبرار والرحماء والنامين فى الفضيلة .
القديس أغسطينوس يقول :
+ حررنى من خطاياى قبل أن أرحل حتى لا أذهب بآثامى . إنه يشير إلى مجال البركة ، إلى المدينة السعيدة ، إلى البيت السعيد ، حيث القديسون شركاء الحياة الأبدية ، شركاء الحق الذى لا يتغير .
+ + +
المزمور الأربعون
جئت لأتمم مشيئتك
فى المزامير 37 – 38 يتحدث المرتل عن انتظار الرب ، فقد عانى داود النبى الكثير من شاول وأبشالوم وخيانة أخيتوفل الخ ..... والآن إذ تمتع بالخلاص بعد معاناة قاسية ، خاصة على يدى إبنه المتمرد أبشالوم ، تحولت مراثيه إلى تسابيح شكر يقدمها بوحى الروح القدس .
تعتبر تسبحة الشكر هذه مزمورا مسيانيا حيث تركز على شخص السيد المسيح وعمله . وتشهد الرسالة إلى العبرانيين ( 10 : 5- 10 ) أن السيد المسيح هو المتحدث هنا حيث يقدم خبراته ، يقدم نفسه بكونه ذاك الذى جاء ليتمم إرادة الآب ، والذى نزل إلى الجحيم ، إلى عمق طين الحمأة ، يحمل خطايا شعبه . كما يقدم الشكر بقيامته ، مقدما التسبحة الجديدة التى يترنم بها شعبه الذى خلصه ونجاه .
يعتبر هذا المزمور من أروع المزامير ، يجب ربطه بمزمور الآلام المجيدة ( مز 22 ) الذى يرتبط بتسبحة القيامة .
" انتظارا انتظرت الرب ،
فاصغى إلى ، وسمع تضرعى " [ 1 ، 2 ] .
تكرار الكلمة " انتظارا انتظرت " يكشف عن الجدية والمثابرة ، وقد استخدم الرب ذات الأسلوب حينما أعلن " شهوة أشتهيت أن آكل الفصح " لو 22 : 15 .
لعل المرتل أراد أن يقول إنه إذ سقط تحت عبء آلام وضيقات لا قدرة لإنسان أن يخلصه منها ، ولا رغبة له فى تدخل ذراع بشرى لخلاصه ، لبث ينتظر مترقبا بإيمان يد الله التى تجرح وتعصب ( أى 5 : 18 ) ، تسحق وتشفى .
يقدم لنا السيد المسيح نفسه مثلا فى انتظاره للأب ، مسلما إرادته بين يدى الآب ، سواء فى بستان جثسيمانى أو اثناء المحاكمة وهو الإله المعبود يصلى كما نصلى نحن ، ويصرخ كما نصرخ ، ويطلب أن تتم إرادة الآب فيه ، مع أنها واحدة مع إرادته ... ينتظر كمن يحتاج إلى عون ، وهو حامل الكل بقدرته ، وذلك كنائب عنا يعمل لحسابنا وبإسمنا وكمثال لنا ، إذ يقول الرسول : " الذى فى أيام جسده ، إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت وسمع له من أجل تقواه " عب 5 : 7 . إنه يعلمنا كيف نغلب وسط آلامنا وفى صراعنا الروحى لننال الأنتصارات المجيدة .
" واصعدنى من جب الشقاء ،
ومن طين الحمأة " [ 2 ] .
فى وسط الآلام شعر المرتل أنه كما فى جب الشقاء ملطخ بالوحل ، كلما حاول رفع قدميه يغوص بالأكثر ، وليس من منقذ أو معين . إنه يذكرنا بإرميا النبى ( إر 38 ) الذى طرح فى الجب بسبب شهادته للحق .
" وأقام على الصخرة رجلى ،
وسهل خطواتى " [ 2 ] .
الصخرة هى ربنا يسوع ( 1 كو 10 : 4 ) الذى نزل إلى الجحيم ، لا عن خطية ارتكبها وإنما لأنه " وضع عليه إثم جميعنا " ، وحملنا فيه من الجحيم بكونه الصخرة والطريق ، نتكىء عليه ونختفى فيه فلا نغوص فى طين الحمأة ، بل تتشدد أرجلنا ، ولا تزل خطواتنا . فى نور الإيمان الحى نسلك ونجاهد فى خطوات ثابتة .
" وجعل فى فمى تسبيحا وسبحا لإلهنا ،
فيرى كثيرون ويخافون ويتوكلون على الرب " [ 3 ] .
إذ يتمتع المؤمن بالسيد المسيح الصخرة كأساس إيمانه وحياته الجديدة يختبر الحياة المقامة الغلبة للخطية والموت ، ينفتح لسانه ليترنم بالتسبحة الجديدة ، تسبحة النصرة ، اللائقة بإنساننا الجديد ، يختبر مراحم الله جديدة فى كل يوم .
" طوبى للرجل الذى اسم الرب رجاؤه ،
ولم ينظر إلى الأباطيل ولا إلى الوساوس الكاذبة " [ 4 ] .
إذ نقبل السيد المسيح طريقا لنا نسلك طريق الصليب الضيق ، نتمتع بالحياة المطوبة لأننا لا نضع رجاءنا فى الأباطيل الزمنية وخداعات العالم الكاذبةبل فىاسم الرب المصلوب .
ليكن الله رجاءنا ، فإن ذاك الذى خلق كل شىء هو أفضل من الكل !
" وأنت أيها الرب إلهى جعلت عجائبك كثيرة ،
وفى أفكارك ليس من يشبهك " [ 5 ] .
حتى إن قدم لنا بنو البشر عونا عن صدق وإخلاص إنما يقدمون ما لديهم من أمور زمنية باطلة ، أما الرب فيقدم عجائب كثيرة خلال حكمته الفائقة المعلنة فى الصليب : يقدم خلاصا من الخطية ، وتحررا من إبليس ، وتبريرا ، وتقديسا ، وبنوة لله ، ومجدا أبديا ! يقدم سلسلة طويلة من عجائب محبته الفائقة التى تكشف لنا عن أفكاره الإلهسة من نحونا .
" ذبيحة وقربانا لم تشأ ،
بل جسدا هيأت لى .
والمحرقات التى من أجل الخطيئة لم تسر بها .
فحينئذ قلت : ها أنا قادم .
فى أرض الكتاب مكتوب :
من أجلى هويت أن أعمل مشيئتك يا الله .
وناموسك فى وسط بطنى " [ 6 – 8 ] .
ماذا رأى المرتل فى ذبيحة السيد المسيح المصلوب ؟
1 – الله لا يحتاج إلى ذبائح وقربان ومحرقات ، فقيمتها تكمن فى أمر واحد ، وهو التهيئة للصليب ، بكونها رمزا له ، خارج هذا الرمز لا يسر الله بها ، لذلك يقول " جسدا هيأت لى " ، فبالتجسد دخل طريق الصليب .
2 – يبرز السيد المسيح كمال طاعته بقوله : " ها أنا قادم " [ 7 ] ، معلنا خضوعه الأختيارى ، فقد جاء قادما إلى العالم ليحقق ما سبق أن رمز إليه بالذبائح الحيوانية ، قادم ليتمم خلاص الإنسان .
3 – ما تممه إنما بمسرة ، إذ يقول : " هويت أن أعمل مشيئتك يا الله " [ 8 ] . وكما قال لتلاميذه : " طعامى أن اعمل مشيئة الذى أرسلنى " يو 4 : 34 ، وفى البستان أعلن " لتكن إرادتك لا إرادتى " ، ويقول الرسول بولس : " من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينا بالخزى " .
سر سروره أنه كلمة الله الذى يعلن إرادة الآب ، فإرادته وإرادة الآب واحدة . ولعل قوله : " ناموسك فى وسط بطنى " يعنى أنه كلمة الله المتجسد ، حيث لا ينفصل الكلمة عن الناسوت قط ! .
نحن أيضا إذ نقبل الكلمة المتجسد فى حياتنا تصير الوصية ( ناموس الله ) فينا ، نعيشها ونسر بها ، متممين إرادة الله باختيارنا بمسرة حقيقية .
4 – " بشرت بعدلك ( ببرك ) " [ 9 ]
بالصليب كرز السيد المسيح ، مبشرا كل بنى البشر بحب الله الفائق ، لا بألفاظ بشرية مجردة ، وإنما بدمه المبذول . لقد سبق فبشر الأنبياء بمجىء المسيا المخلص ، والآن جاء ليحدثنا بكلمة البشارة بنفسه . وكما يقول الرسول :
" بعدما كلم الله الآباء بالأنبياء قديما كلمنا بأنواع وطرق كثيرة فى هذه الأيام بإبنه " عب 1 : 1 ، 2 .
بالصليب صار السيد المسيح الذبيح المبشر الوحيد ، يتكلم خلال كنيسته وخدامه ليجتذب بروحه القدوس كل نفس إلى بشارة الإنجيل المفرحة .
5 – بكرازته العملية اجتذب أعضاء كنيسته من الأمم كجماعة عظيمة تتمتع بكلمات حبه التى لا يمنعها عن أحد ، إذ يقول :
" فى جماعة عظيمة هوذا لا أمنع شفتى " [ 9 ] .
ما هما شفتا السيد المسيح اللتان لا يمنعهما عن النطق إلا عدله ورحمته ، فبكلمة الصليب التى نطق بها عمليا التقى العدل الإلهى مع الرحمة فى تناغم عجيب !
لم يمنع شفتيه ، إذ تكلم علانية بصلبه جهارا خارج المحلة ، وشهد ذلك القادمون من كل بقاع العالم يحتفلون بعيد الفصح ، كما شاهده الجند الرومان ... لا يستطيع أحد أن يعتذر بجهله للصليب !
" لم أكتم برك ( عدلك ) فى قلبى ، ..... ورحمتك وحقك لم أخفهما عن محفل عظيم ، .... لأن الشرور التى لا عدد لها قد أحاطت بى .
ادركتنى آثام ، ولم أستطع أن أبصر ،
كثرت أكثر من شعر رأسى .
وقلبى تركنى " [ 10 – 12 ] .
أدرك المرتل أن الشرور تكتنف حياته ، أينما اتجه تحيط به ، وبسببها فقد قلبه ، أى بصيرته الداخلية ، فلم يعد قادرا على التمتع برؤية الله وشركة السمائيين وخبرة الحياة السماوية .
ما الذى يحرمنى الرؤية ، أليس الإثم ؟
" يارب أرض بخلاصى .
يارب التفت إلى معونتى " [ 13 ]
" ليتهلل ويسر بك جميع الذين يلتمسونك يارب .
وليقل فى كل حين الذين يحبون خلاصك .
فليعظم الرب فى كل حين .
اما أنا فمسكين وضعيف والرب يهتم بى .
معينى وناصرى أنت هو .
ياإلهى لا تبطىء " [ 16 ، 17 ] .
يعتبر المرتل أنه قد بلغ حالة يرثى لها . إنه فى ضيقة أدرك أنه مسكين وضعيف ، لكنه وجد فى الله معين المساكين والضعفاء . وقد اختبر المرتل فى ضيقته هنا بركات التمتع بالتهليل الداخلى أو السرور الحقيقى ، وقدمت الضيقة له فرصة ذهبية ليتعلم المرتل وأصدقاؤه الأتقياء الألتجاء إلى الله وحده ، يلتمسونه بروح الأنسحاق .
+ + +