المزمور الحادى والأربعون
الإنسان المطوب
بين المزمورين الأول والحادى والأربعين
القسم الأول من سفر المزامير عند اليهود يضم المزامير 1 – 41 . ويشترك المزموران الأول والأخير من هذا القسم فى الآتى :
1 – كلاهما يبدآن بكلمة " طوبى " ، الأول يعلن عن تطويب الرجل الذى يلهج فى ناموس الله نهارا وليلا ، ليمارس الوصية فى حياته اليومية العملية ، والأخير يطوب الإنسان الذى ينظر إلى المسكين ، الأول يعلن حب المؤمن الحى للوصية بكونها وصية الله ، والأخير يعلن حبه الحى للمسكين بكونه أخا للسيد المسيح ، موضوع اهتمام الله وحبه .
2 – المزموران نبويان ، يتحدثان عن مقاومة الأشرار للسيد المسيح ، وآلامه ، ونصرته . أشار السيد المسيح إلى هذا المزمور ( 41 ) بكونه نبوة عن خيانة يهوذا له ( يو 13 : 18 ) ، كما أشار إليه القديس بطرس ( أع 1 : 16 ) .
" طوبى للذى يتفهم فى أمر المسكين والفقير ،
فى يوم السوء ينجيه الرب .
الرب يحفظه ويحييه ،
ويجعله فى الأرض مغبوطا ،
ولا يسلمه بأيدى أعدائه " [ 1 ، 2 ] .
من هو هذا المسكين ؟
1 – واضح أن كلمة " المسكين " تعنى " الضعيف " أو الذى " بلا معين " . فالله فى غناه يشتاق أن يفيض بالعطاء على بنى البشر ، ليس فقط العطاء المادى ، وإنما عطاء نفسه ليتمتعوا به كأولاد له ينعمون بأحضانه الإلهية . هذا العطاء المجانى هو نعمة إلهية توهب بروح الله القدوس مشروطة برغبتنا نحن أيضا فى العطاء ، حتى يتحقق الحب المتبادل بين الله وأولاده . عطاؤنا له يتم عمليا فى إخوته المساكين ، إذ يقول : " الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد اخوتى هؤلاء الأصاغر فبى فعلتم " مت 25 : 40 .
+ الفقير يمد يده متوسلا ، ولكن الله هو الذى يقبل صدقتك .
+ لقد بلغك عنى أنى متسربل بالنور كالرداء ، لكنك متى كسوت عريانا أشعر أنا بدفء وأننى تسترت .
2 – المسكين هنا أيضا هو الفقير فى الإيمان وفى معرفة الله ومحبته ، والمحتاج لكلمة الله ، كما يقول الرسول بولس : " كفقراء ونحن نغنى كثيرين " ، بمعنى أننا نحن فقراء فى المال لكننا أغنياء بالسيد المسيح ، به نغنى كثيرين .
3 – المسكين الذى يلزمنا أن نتفهم أمره هو السيد المسيح ، الذى لأجلنا وهو الغنى افتقر . صار كمن هو بلا معين وهو خالق الكل ، يطلب من السامرية أن تعطيه ليشرب ( يو 4 : 7 ) ... مشتاق إلى قلوب أولاده التى يغمرها بينابيع حبه ويشرب هو منها !
لننظر إلى مسيحنا الذى صار عبدا مسكينا ، لننظره فى آلامه وفى صلبه وهو يصرخ : " أنا عطشان " !
لقد قدم له التلاميذ طعاما ، أما هو فقال لهم : " أنا لى طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم " يو 4 : 31 . ما هو هذا الطعام إلا اتحادنا به ، وقبولنا آلامه وصلبه فننعم بقوة قيامته وأمجادها !
باهتمامنا بالمسكين ، سواء المعتاز إلى أمور مادية أو روحية أو معنوية نهتم بالمسكين الذى افتقر لأجلنا ، ونتحد بذاك الذى نزل إلينا ، فإن ثمر هذا الأهتمام أو هذا الفهم العملى هو الآتى :
1 – " فى يوم السوء ينجيه الرب " [ 1 ] : ارتفاع نظرنا إلى السيد المسيح بعمل روحه القدوس يرفعنا إلى فوق لنجتاز يوم السوء ونعبره فى أمان .
2 – " الرب يحفظه ويحييه " [ 2 ] .
إذ يعد الرب شعبه أنه بالكيل الذى به يكيلون يكال لهم ويزاد ( مت 7 : 2 ) لذلك فهو يعد من يحفظ المسكين فى أمور زمنية بسيطة ، مقدما له ضروريات الحياة ، يهبه حفظا من كل شرير حتى يدخل به إلى حياة الدهر الآتى . يقدم الإنسان الزمنيات ليتمتع بالسماويات ومعها البركات الأرضية أيضا .
3 – " ويجعله فى الأرض مغبوطا " [ 2 ] ، إذ يحول له الأرض سماء .
المحب للفقراء ينعم بالأرض الجديدة ، أرض الأحياء ، الحياة الكنسية ، حيث يمتلىء قلبه فرحا وغبطة ... ينعم بعمل السيد المسيح الساكن فيه ، الذى يقيم داخله ملكوته كملكوت تسبيح وتهليل وشكر على غنى نعمة الله المجانية !
4 – " ولا يسلمه بأيدى أعدائه " [ 2 ] .
+ العدو هو الشيطان . لا يفكر أحد أن انسانا ما عدوه عند سماعه هذه الكلمات ..
5 – " الرب يعينه على سرير وجعه ، صرفت مضجعه كله فى مرضه " [ 3 ] .
الصدقة تعين المؤمن الحى على التمتع بالشفاء الروحى والجسدى ، ليس ثمنا لعمله ، وإنما لأن الله الرحوم يهب مجانا نعمته لمن يعلن عن قبولها بتقديم الحب والرحمة للغير ( مت 5 : 7 ) .
يرى القديس أغسطينوس أن السرير هنا هو ضعف الجسد الروحى ، فالنفس المتعبة بالخطية تجد لذتها فى ملذات الجسد كما على سرير مريح ... لكنه سرير ألم ومرض . والرب فى حنانه يطلب منه أن يقوم ليحمل سريره ويمشى إلى بيته ( مر 2 : 11 ) . بمعنى آخر يهب النفس قوة القيامة ، فلا يحملها الجسد فى ملذات باطلة ، بل بالروح تحمل تحمل الجسد فى قدسية ونقاوة لتنطلق إلى البيت السماوى ، وتجد راحتها فى حضن الآب . وكأن العطاء يهبنا فرصة التمتع بعمل الله المجانى ، فيه نقوم من فراش جسدنا وننطلق بكمال الحرية كما بجناحى الحمامة نحو السمويات .
" أنا قلت يارب ارحمنى .
اشف نفسى لأنى قد أخطأت إليك " [ 4 ] .
هذه صلاة فى منتهى البلاغة فى اللغة العبرية ، فإنه ماذا يمكن لإنسان أن يفعل أكثر من الأعتراف بإخلاص وأمانة بخطاياه .
ما هو ارتباط هذه الصلاة بحديثه السابق عن الإهتمام بأمر المسكين ؟
يبدو أن المرتل قد سقط تحت تأديب إلهى ، إذ يربط ضيقته بإثمه ، متوقعا أنه إذ ينظر إلى أمر المسكين ، يتطلع الله إليه كمسكين لكن ليس دون اعتراف بخطاياه . هنا يبرز المرتل أن ما يناله الإنسان من هبات كثمرة العطاء المملوء حبا لا يتم عن بر ذاتى ، وإنما عم مراحم الله المجانية ، إذ يعترف المرتل بخطيته طالبا الرحمة والشفاء .
" أعدائى تقولوا على شرا :
متى يموت ويباد اسمه ؟! " [ 5 ] .
يود العدو الشرير أن يطيح بأولاد الله الأبرار ، ويظن أن هذا يتحقق فعلا ، متجاهلا أن الصديق يسقط سبع مرات ويقوم .
ويرى البعض أن هذا هو صوت السيد المسيح الذى اتهمه الأعداء كذبا ، وتآمروا على قتله وإبادة اسمه . ويبقى صوته هذا ينطق به فى كنيسته التى تتألم لجله والتى يريد العالم أن يمحوها لينزع اسم مسيحها تماما . وكما يقول سفر الأعمال عن القديسين بطرس ويوحنا :
" فدعوهما وأوصوهما أن لا ينطقا البتة ولا يعلما باسم يسوع " أع 4 : 18 .
مات المسيح ولم يبد اسمه ، ومات الشهداء ونمت الكنيسة ، ونمى اسم المسيح بين الأمم
لقد دبر أخيتوفا المؤامرة لقتل داود الملك وإبادة اسمه فكان رمزا لعدو الخير إبليس الذى هيج الكثيرين ضد ابن داود للخلاص منه بالصليب ، فجاءت كلمات داود النبى تنطبق بصورة أكمل فى شخص السيد المسيح ، إذ يقول :
" كان يدخل لينظر فكان يتكلم باطلا ،
وقلبه جمع له إثما .
كان يخرج خارجا ويتكلم على معا .
على تدمدم جميع أعدائى .
وتشاوروا على بالسوء ،
وكلاما مخالفا للناموس رتبوا على .
هل النائم لا يعود أن يقوم ؟! " [ 6 – 8 ] .
تحققت هذه النبوة قفى شخص السيد المسيح حيث اجتمع رؤساء الكهنة والكهنة والكتبة والفريسيون والناموسيون وبيلاطس وهيرودس عليه . تدمدموا معا أى تهامسوا أو تشاوروا من وراء السيد ، وحكموا عليه على خلاف الناموس ، وظنوا أنه نام فى القبر ولا يعود يقوم .
بعد أن تحدث عن الأعداء صالبى المسيح تكلم بوجه الخصوص عن يهوذا مسلمه ، التلميذ الخائن :
" وأن انسان سلامتى الذى وثقت به
الذى أكل خبزى رفع على عقبه " [ 9 ] .
+ من هو انسان سلامته ؟ يهوذا .... لقد خانه بقبلة غاشة ( يو 6 : 70 ) ، ليظهر ما قيل عنه : " رجل سلامتى " .
نصرة قيامة :
" وأنت يارب ارحمنى وأقمنى فأجازيهم .
بهذا علمت أنك هويتنى ،
لأن عدوى لن يسر بى " [ 9 – 10 ] .
لقد ظنوا أنه قد مات ودفن ولن يقوم ، لكنه إذ مات لأجلنا وبإسمنا يقوم أيضا بإسمنا ، فيصرخ " أرحمنى وأقمنى " . له سلطان أن يضع نفسه وأن يأخذها كما أعلن بنفسه ، لكنه كممثل لنا فى طاعة مات وفى طاعة قام ، لنصير نحن فيه أبناء طاعة وموضع سرور الآب .. قيامته أعلنت تبريرنا فيه ، لنقول : " بهذا علمت أنك هويتنى " . نحن موضع سرور الآب بعد أن كنا موضع سرور العدو الذى ملك على قلبنا وحياتنا واستخدمنا لحساب ملكوت ظلمته .
بقوة القيامة تعلمنا روح النصرة والغلبة ، لا بالعنف والمكابرة بل بالوداعة التى ننالها فى المسيح يسوع ، به نصير موضع سروره وقبوله فنثبت أمامه إلى الأبد :
" وأنا من أجل دعتى قبلتنى وثبتنى أمامك إلى الأبد " [ 12 ] .
يختم المرتل المزمور بذكصولوجية ليتورجية جماعية ، فما يناله من بركات يفرح الكنيسة كلها !
" مبارك الرب إله إسرائيل
من الأبد وإلى الأبد ، يكون يكون " [ 13 ] .
يرى البعض أن هذه الذكصولوجية هى ختام القسم الأول من سفر المزامير [ مز 1 – 41 ] ، حيث يسبح المؤمن إله الكنيسة الجامعة ( إسرائيل الجديدة ) ، كعربون لحياة التسبيح السماوية ، فى أورشليم العليا .
+ + +
المزمور الثانى والأربعون
مقدمة : الكنيسة والخلاص
القسم الأول ( مز 1 – مز 41 ) هو تجميع لمزامير تتحدث عن حالة الإنسان : حياته المطوبة وسقوطه ثم تجديده بعمل الله مخلصه الذى يرد إليه الحياة الفردوسية المتهللة المفقودة .
أما القسم الثانى ( مز 42 – مز 50 ) فيماثل سفر الخروج حيث ظهر شعب الله الذى يدخل فى ميثاق معه خلال دم الحمل ( خر 12 ) ، لهذا جاءت مزامير هذا القسم تتحدث عن " الكنيسة والخلاص " .
يبدأ هذا القسم بصرخة مرة تصدر عن أعماق الضغطة ( مز 42 – 49 ) ، لينتهى بإعلان ملك الله على شعبه المتعبد له حيث يقال : " ويسود من البحر إلى البحر ، ومن النهر إلى أقاصى المسكونة .... ويسجد له جميع ملوك الأرض ، وكل الأمم تتعبد له " مز 72 . يملك ملك الملوك على شعبه الذين صاروا ملوك الأرض ، أى أصحاب سلطان على أجسادهم التى تتقدس فتحسب أرض الرب . أما طريق المجد الملوكى فهو التوبة ، لهذا يقدم لنا هذا القسم الكثير من المزامير التى تتحدث عن التوبة والأعتراف ، أبرزها مزمور التوبة الأمثل 51 الذى نترنم به فى مقدمة كل صلاة أو تسبحة من صلوات السواعى ( الأجبية ) ، كما يصلى به الكاهن مع الشعب فى أغلب الصلوات الليتورجية ( الجماعية ) .
مزمور 42
عطشى إلى المسيح
1 – صرخة واشتياق إلى الله [ 1 – 5 ]
تصدر عن المرتل صرخة صادقة وعميقة خلال شعوره بالحرمان من أورشليم العليا وهيكل قدسه السماوى ، حاسبا نفسه محروما من الله القادر وحده أن يروى نفسه ، إذ يقول :
" كما تشتاق الإيل إلى ينابيع المياة ،
كذلك تاقت نفسى أن تأتى إليك يا الله .
عطشت نفسى إلى الله الحى ،
متى أجىء وأظهر أمام وجه الله ؟! " [ 1 ، 2 ] .
المؤمن كالأيل التى لا تتوقف عن الجرى السريع لعلها تجد ينبوع المياة ، وليست كالجمل الذى يحمل اكتفاء ذاتيا فيه أثناء سيره البطىء فى الصحراء .
يعبر المرتل عن شوقه نحو الله بالعطش ، لأن آلامه أكثر مرارة من آلام الجوع .
قال السيد المسيح كممثل لنا " أنا عطشان " يو 19 : 28 ليعبر عن عطش المؤمنين إلى الله ! .
جاء فى سفر إرميا شهادة للآب كينبوع : " تركونى أنا ينبوع المياة الحية لينقروا لأنفسهم آبارا ، آبارا مشققة لا تضبط ماء " إر 2 : 13 .
وفى موضع آخر نقرأ عن الإبن أنهم قد تركوا ينبوع الحكمة ، وأيضا عن الروح القدس :
" من يشرب من الماء الذى أعطيه أنا .... يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية " يو 4 : 14 .
" عطشت نفسى إلى الله الحى ،
متى أجىء وأظهر أمام وجه الله ؟!
لأن دموعى صارت لى خبزا النهار والليل ،
إذ قيل لى كل يوم :
أين هو إلهك ؟ " [ 2 ، 3 ] .
المرتل لم يقل : " لأن دموعى صارت لى شرابا " بل " خبزا " ، لأن الظمآن إن أكل خبزا يزداد ظمأ ... فدموع الإشتياق نحو اللقاء مع الله لا تروينا بل تلهب بالأكثر عطشنا إليه .
يشير النهار لحالة الفرج أو الفرح ، والليل إلى حالة الضيق والألم ، وكأن المرتل يعلن أن دموعه لا تجف وسط أفراحه أو أحزانه ، إذ تحت كل الظروف ليس ما يشغله إلا حنينه نحو الله !
فى كبرياء وتشامخ وبسخرية يقول لى الأعداء : أين هو إلهك ؟ حسبوا طول أناة الله ضعفا ! أرادوا أن يحطموا رجائى فى الله ، كأنه قد تركنى ، ولم يدركوا أنه سيد التاريخ وضابطه ، إنه يتمهل ويطيل الأناة منتظرا توبتهم ورجوعهم ، أو ينتظر حتى يمتلىء كأس شرهم . ......
..... " لماذا أنت حزينة يا نفسى ؟
ولماذا تقلقينى ؟
توكلى على الله ، فإنى أعترف له .
خلاص وجهى هو إلهى " [ 5 ] .
يدرك المرتل أن سر مرارة نفسه وانحنائها ليست تعييرات الأعداء ولا مقاومتهم وإنما ضعفه الداخلى ، لهذا فإن فرحها هو فى الله مخلصها الذى يقيم وجهها الساقط كما فى التراب .
تأتى تسبحتنا وسط الآلام هكذا :
" أقول لله : إنك أنت هو ناصرى .
لماذا تركتنى عنك ؟!
ثم لماذا نسيتنى ؟
ولماذا أجوز كئيبا إذ يحزننى عدوى عند ترضيض عظامى ؟! " [ 9 ، 10 ] .
عندما يدخل الإنسان تحت التأديب يظن كأن الله قد نسيه أو تخلى عنه مع أنه سند أولاده وناصرهم حتى وسط التأديب .
يرى القديس أغسطينوس أن هذه الكلمات هى صرخات السيد المسيح على الصليب ، القائل : " إلهى إلهى لماذا تركتنى ؟ " ...... [ هكذا صرخ رأسنا كمن يتكلم بإسمنا ( مت 27 : 46 ، مز 22 : 1 ) ] .
يختم المرتل المزمور معلنا أنه وإن كانت عظامه قد ترضضت أو انسحقت بسبب فرط ضيقه وشدة مرارته ، ونفسه قد أنحنت فى أنين ، لكنه بفرح يترجى الله مخلصه .
+ + +