المزمور الثالث والأربعون
أحكم لى يارب
" أحكم لى يارب وانتقم لمظلمتى
من أمة غير بارة ،
ومن إنسان ظالم نجنى " [ 1 ]
إنها تعزية فائقة لا يمكن التعبير عنها أن نكون قادرين أن نسأل الله كى يقضى لنا ، فإن قضاءه حق ، بغير محاباة ، يتم ليس حسب المظاهر بل حسب القلب . من يقدر أن يسلم طريقه لله بضمير صالح لا يخشى شيئا . فإنه إذ لا يستطيع الأبرار أن يستخدموا الغش والظلم ، الأسلحة التى يوجهها الأشرار ضدهم ، لهذا فإن ملجأهم الوحيد هو الله ، عندما يكون فى صفهم لن يصيبهم ضرر حقيقى .
+ إننى لا أخشى قضاءك ، لأننى أعرف رحمتك .
" لأنك أنت هو إلهى وقوتى .
لماذا أقصيتنى ؟
ولماذا أسلك كئيبا إذ يحزننى عدوى ؟ " [ 2 ]
يصرخ المرتل إلى الله بكونه إلهه الشخصى وقوته ، فإن كان الكل قد فارقه أو صار مقاوما له لكن يبقى الله وحده الملاصق له بكونه إلهه وقوته .. فإن كان الكل قد فارقه أو صار مقاوما له لكن يبقى الله وحده الملاصق له بكونه إلهه بل وقوته .. فبدالة يصرخ : " لماذا أقصيتنى ؟ " أو " لماذا تركتنى " . من حقى أن ألتجىء إليك واعاتبك ... فلا تتركنى فى حزنى .
إذ صرخ المرتل إلى الله إلهه ومخلصه وقوته معلنا أنه يبقى سائرا فى الطريق الملوكى بالرغم من محاصرة الأحزان له ومضايقات الأعداء المستمرة له ... الآن يطلب الله نورا له يهديه إلى كنيسته بكونها بيته المقدس ، بيت الخلاص .
" أرسل نورك وحقك ،
فإنهما أهدياننى وأصعدانى إلى جبلك المقدس وإلى مسكنك ( خيامك ) ،
فأدخل إلى مذبح الله تجاه وجه الله ،
الذى يفرح شبابى " [ 3 ، 4 ] .
ما هو النور والحق اللذان يهدياننى ويرتفعان بى للبلوغ إلى قمة جبل الله إلا السيد المسيح الذى هو " نور العالم " وهو " الحق " . كثير من الآباء يرون أن النور هو الحب ، والظلمة هى البغضة أو الكراهية ، وكأن السيد المسيح وهو النور والحق يهبنا روح الحب الحقيقى لينتشلنا من ظلمة هذا العالم ، ويحملنا إلى نور سمواته .
لن نستطيع أن ندخل إلى العضوية الكنسية ، كاعضاء فى جسد المسيح ما لم نقبل الأتحاد مع المسيح الرأس ، فيكون لنا نورا وحقا وحبا .
إذ ينعم المرتل بالخلاص خلال كنيسة المسيح ، موضع الذبيحة ، وبيت الخلاص ، يترنم بفرح قائلا :
" أعترف لك بالقيثارة يا الله إلهى .
لماذا أنت حزينة يا نفسى ؟
ولماذا تزعجيننى ؟
توكلى على الله فإنى اعترف له .
خلاص وجهى هو إلهى " [ 5 ، 6 ] .
إذ يدخل المرتل إلى الكنيسة يجد ما هو عالم خاص به ، فالله إله الكنيسة كلها هو إلهه الشخصى ... لذا يكرر تعبير " الله إلهى " .
وكما يقول القديس يوحنا الذهبى الفم : [ بدافع من حبه الشديد يمسك بالأمور العامة ويعتبرها خاصة به ، كما اعتاد الأنبياء أن ينطقوا من وقت إلى آخر ] .
العزف للرب بالقيثارة إنما يعنى العودة إلى أورشليم حيث يمارس المؤمنون تسابيحهم ببهجة قلب . " .... على الصفصاف فى وسطها علقنا أداة ألحاننا ( قيثاراتنا ) " [ مز 136 ( 137 ) ] .
أخيرا إذ ينعم المرتل بعطايا الله ومخلصه ، يطلب من نفسه ألا تبقى بعد منحنية ولا فى أنين بل ترفع وجهها لترى وجه الرب ... تلتقى مع عريسها المخلص لتبقى معه فى سمواته كما فى بيت العرس الأبدى !
+ + +
المزمور الرابع والأربعون
حسبنا مثل غنم للذبح
المناسبة :
زمان ضيقة حلت بالشعب كله [ 9 – 14 ] ، ليس بسبب ارتداد أو سقوط فى العبادة الوثنية [ 17 – 21 ] ، وإنما كانت اختبارا للإيمان . فالمزمور يمثل صرخة شعب متألم لأجل البر ، وهى صرخة تبقى تدوى عبر العصور منذ أيام آدم حيث قتل قايين هابيل بلا ذنب ، لها صداها حتى فى الفردوس حيث يصرخ الشهداء الذين قتلوا من أجل كلمة الله ومن أجل الشهادة التى كانت عندهم ، قائلين : " حتى متى أيها السيد القدوس والحق لا تقضى وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض ؟ ! " ... وقيل لهم أن يستريحوا زمانا يسيرا أيضا حتى يكمل العبيد رفقاؤهم وإخوتهم أيضا العتيدون أن يقتلوا مثلهم " رؤ 6 : 9 – 11 . إنه موكب الأجيال كلها .
يعتبر هذا المزمور نموذجا للدخول فى الآلام على مستوى الشعب لا للتأديب بل للمشاركة فى الحب الإلهى ، إذ نقول : " لأننا من أجلك نمات كل يوم ، وقد حسبنا مثل الغنم للذبح " [ 22 ] .
ويعتبر هذا المزمور مثلا حيا لحياة الشركة الجماعية مع ممارسة العلاقة الشخصية مع الله ... فكثيرا ما يتحدث المرتل باسم الجماعة دون تجاهل لحديثه الشخصى مع الله ملكه وإلهه ... إذ يقول : " أنت هو ملكى وإلهى الذى أمرت بخلاص يعقوب " [ 4 ] ، فهو يصرخ إلى إلهه من أجل الكنيسة ( يعقوب ) كلها !
يستهل هذا المزمور بتسبحة جماعية يترنم بها الشعب وسط الضيق ، حيث يتطلع الكل إلى معاملات الله فى الماضى ، فيقولون :
" اللهم بآذاننا قد سمعنا ،
وآباؤنا أخبرونا بالعمل الذى عملته
فى أيامهم فى الأيام الأولى " [ 1 ] .
يعود الشعب كله بذاكرته إلى معاملات الله مع آبائهم فى أيام موسى النبى ويشوع بن نون حين حررهم الله من عبودية فرعون وطرد أمامهم أمما وقدم لهم أرض الموعد ، لا بسيفهم ولا بقدرتهم ، وإنما حسب غنى مواعيد الله .
إنه عمل نعمة الله الغنية فى بدايته كما فى نهايته .
الماضى بالنسبة لنا كأولاد لله ليس تاريخا عبر وأنتهى ، لكنه خبرة ممتدة عبر الزمن يعيشها الإنسان مع الله مخلصه المعتنى به . الله بالنسبة لنا هو هو أمس واليوم وإلى الأبد ، عمل فى الماضى ولا يزال حيا يعمل فى الحاضر مؤكدا صدق مواعيده معنا حتى يدخل بنا إلى شركة أمجاده المقبلة .
ما هى الخبرة التى ذاقها المرتل مع الشعب ؟
" يدك أستأصلت أمما وغرستهم ،
اضررت بالشعوب وأخرجتهم .
لأنه ليس بسيفهم ورثوا الأرض ،
ولا ذراعهم خلصهم .
لكن يمينك وذراعك وضوء وجهك ،
لأنك سررت بهم " [ 2 ، 3 ] .
أول هذه الخبرات هى أن يد الله أستأصلت أمما وثنية ليغرس شعبه . هذه هى خطة الله فى حياة الإنسان ، يريد أن يستأصل كل مملكة فاسدة فى القلب ليقيم ملكوته داخله ( لو 17 : 21 ) .
ما هى يد الله التى تستأصل لتغرس إلا الكلمة الإلهى ، الذى به كان كل شىء وبغيره لم يكن شىء مما كان ( يو 1 : 3 ) .
سر النصرة هو يمين الرب وذراعه وبهاء وجهه [ 3 ]
سر نصرتنا هو كلمة الله المتجسد فهو :
( أ ) يمين الآب ، أى قوته ، بكونه كلمة الله العاقلة أو عقل الله الناطق . يقول العلامة أوريجانوس أنه دعى هكذا لأن به صنع كل الكائنات مظهرا قوة الله .
وهو ذراع الرب ، لأن كل عطية إلهية هى من عند الآب بالإبن فى الروح القدس . هى عطية واحدة يقدمها الآب بتدبيره ، ويحققها الإبن الكلمة العاقل ، لذا دعى ذراع الآب أو يده . عندما يقول الكتاب إن الرب بسط يده أو شمر عن ذراعه ، إنما يقصد بذلك التجسد الإلهى ، حيث نزل إلينا مخبرا إيانا عن خطة الآب وحبه وعمله .
وهو بهاء وجه الآب ، كما يدعوه الرسول : " بهاء مجده " عب 1 : 2 . فهو بهاء النور ، وواحد معه ، إذ لا يمكن أن يكون النور نورا بغير بهاء ، ولا وجود للبهاء بدون النور .. لهذا قيل أيضا عنه : " نور من نور " ، لأنه هو البهاء الصادر عنه أزليا غير منفصل عنه فى ذات الجوهر .
يطلب المرتل باسم الجماعة ( يعقوب ) ، إذ يقول :
" أنت هو ملكى وإلهى ،
الذى أمرت بخلاص يعقوب " [ 4 ] .
إذ نتمسك بدالة بوعود الله مع شعبه نحمله " قوة لنا " ، به ننال الغلبة على عدو الخير الذى لا يكف عن أن يشتكى ضدنا .
" بك نذبح أعداءنا ،
وبإسمك نرذل كل الذين يقولون علينا " [ 5 ] .
لا يميز المرتل بين " الله " و " اسم الله " ، فبالله نذبح أو ننطح أعداءنا ، وبإسمه نرذل المشتكى علينا أو ندوس على مقاومينا . لأن اسم الله إنما يعنى الحضرة الإلهية !
من هم أعداؤنا الذين نذبحهم إلا أعمال الإنسان القديم ؟!
كلمة عتاب
إذ يصف المرتل ما حل بالشعب من ضيقة يدخل مع الله فى كلمة عتاب ، وهذا ما يريده الله منا وسط آلامنا ، يود أن نلتصق به ونحاوره ، نعرف كيف نتحدث معه ، فإننا فى أوقات الفرج كثيرا ما ننشغل بذواتنا ونتعرض للتشامخ والكبرياء ، ولا يكون لله موضع فى قلوبنا .
لنعاتبه كأبناء فهو يصغى مشتاقا أن يعطى بسخاء ! يعطى ذاته وحبه وليس فقط خبراته وبركاته !
فى عتاب المحبة يندهش المرتل ، متسائلا : لماذا سمح الله للشعب بالضيقة :
" هذه كلها جاءت علينا ولم ننسك ،
ولا غدرنا بعهدك ،
ولم يمل قلبنا إلى خلف ،
ولا مالت خطواتنا عن طريقك " [ 16 ، 17 ] .
يشتاق أن يسمع الله مثل هذه العبارات التى لا تحمل برا ذاتا ولا دفاعا عن النفس أمام الله ، وإنما إيمانا به وتمسكا بطريقه وإعلانا عن صدق حبنا له .
يكمل المرتل عتابه ، قائلا :
" إن كنا نسينا اسم إلهنا ،
وإن كنا بسطنا أيدينا إلى إله غريب ،
أفليس الله المطالب بهذه ؟!
لأنه هو يعرف خفايا القلب " [ 20 ، 21 ] .
فى عتابه هذا يعلن الآتى :
ليس لى أن أتكلم ، فأنت تعلم يا الله خفايا القلب ، أنت تعرف أننا لم نرتبط بإله آخر بل بإسمك القدوس ، ليس فقط فى الظاهر ، وإنما فى أعماق القلب .
نحن نعرفك ولا ننساك ، لذا أنت تعرفنا معرفة المحب لمحبوبيه . معرفة الله هنا لا تعنى الإدراك العقلى وإنما معرفة العلاقة القوية ، معرفة الحب ( مت 7 : 23 ) . الله القدوس لا يقبل فى معرفته إلا القديسين .
أخيرا يخنم عتابه ، قائلا :
" لأننا من أجلك نمات كل يوم ،
وقد حسبنا مثل غنم للذبح " [ 22 ] .
إذ يتحدث الرسول بولس عن حب الكنيسة لمسيحها يقول : " كما هو مكتوب : إننا من أجلك نمات كل النهار ، قد حسبنا مثل غنم للذبح " رو 8 : 36 .
هذا هو صوت الكنيسة الجامعة منذ آدم إلى آخر الدهور التى تقبل الدخول فى طريق الشهادة لله حتى الموت ، تقبل شركة آلام المسيح بسرور ، فتشتهى أن تحسب كالغنم المقدم لأجله للذبح كما سيق هو كشاة للذبح ( إش 53 : 7 ) ... تمارس الموت الإختيارى كل يوم ، إن لم يكن بسفك الدم فبالجهاد الروحى والبذل والعطاء لكل أحد حتى لغير المؤمنين لأجل الله محب كل البشر !
صرخة من أجل الخلاص
إن كانت محبتنا لله تدفعنا أن نموت لأجله كل يوم بل طول النهار ، بالجهاد المستمر ضد الخطية ، وتسليم الإرادة مبذولة لتعمل نعمة الله المجانية فى حياتنا ، وأن نشهد للحياة الأنجيلية حتى المنتهى .... هذا يتحقق لا من منطلق اليأس أو الشعور بالهزيمة وإنما بيقين التمتع بقوة قيامة الرب وبهجتها . يقول المرتل :
" استيقظ يارب ، لماذا تنام ؟!
قم ، ولا تقصنا عنك إلى الأنقضاء .
لماذا تصرف وجهك عنا ؟
ونسيت مسكننا وضيقتنا ؟!
فإن نفوسنا قد اتضعت حتى التراب ،
ولصقت بالأرض بطننا .
قم يارب أعنا وانقذنا من أجل اسمك القدوس " [ 23 – 26 ] .
هذا هو إيمان الكنيسة كلها فى القيامة مع السيد المسيح . هذه هى صرخات الشهداء أثناء عذاباتهم ، والمجاهدون أثناء أتعابهم .
يطالبنا القديس جيروم أن نيقظ السيد المسيح النائم فى داخلنا ، أى نيقظ إيماننا به بالتوبة ، قائلا : [ إن كان بسبب خطايانا ينام ، فلنقل : " استيقظ ، لماذا تتغافى يارب ؟! " [ 44 ] . وإذ تلطم الأمواج سفينتنا فلنيقظه ، قائلين : " يا سيد نجنا فإننا نهلك " ( مت 8 : 25 ، لو 8 : 24 ) . ] .
+ أشرقت يا شمس البر على حياتنا ،
فلم يعد فيها ليل ،
بل صارت كلها نهارا !
أشرقت علينا بصليبك أيها الكاهن والذبيح !
أهلنا أن ترتفع معك على صليبك ،
ونحمل آلامك ،
ونسر بمعيتك أيها الحب الحقيقى !
+ + +